سجلت كوندوليزا رايس، وزيرة خارجية إدارة بوش، زيارة أخرى عديمة المعنى إلى منطقة الشرق الأوسط خلال الأسبوع الماضي، وهي الزيارة الثامنة لها منذ انعقاد مؤتمر أنابوليس في شهر نوفمبر 2007، وربما تكون الأخيرة لها. والسؤال المحير هنا: لماذا تكلف رايس نفسها عناء المجيء والذهاب مرات عديدة متكررة إلى المنطقة؟ فقد أظهرت رايس عزماً لا يكل ولا يمل في أسفارها هذه، إلا أنها ظلت زيارات لا طائل منها البتة رغم العناء. وبما أن إدارة بوش قد أوشكت على مغادرة البيت الأبيض بحلول العام المقبل، فهل يحمل عنها الرئيس المنتخب باراك أوباما وزر تحدي عملية سلام الشرق الأوسط المنهارة؟ فبدلاً من إضاعة الوقت والانتظار الطويل إلى حين توليه المهام الرئاسية في أواخر شهر يناير المقبل، حثه الكثيرون من أطراف ودول شتى، على الإسراع والتحرك باتجاه تعيين مبعوث خاص له إلى منطقة الشرق الأوسط، على أن يتمتع بصلاحيات التفاوض عن إدارته المرتقبة. وقد ورد سلفاً اسم الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، باعتباره مرشحاً ملائماً لأداء هذه المهمة. ولكن ربما كان ترشيح وزير الخارجية ورئيس أركان الحرب المشتركة السابق كولن باول، أفضل منه للقيام بمهمة هي ذات طابع دبلوماسي في الأساس. لكن، وعلى أية حال، فقد ساد الشعور بالقلق وخيبة الأمل في العالم العربي، جراء تعيين أوباما لرام مانويل رئيساً لموظفي البيت الأبيض في ظل إدارته. والسبب أن الشخص المعين معروف بجذوره الإسرائيلية وتعاطفه معها، إلى جانب شدته. ومن منظور العرب، فليس في هذا الاختيار والتعيين ما يشير إلى انتباه أوباما إلى طول أمد النزاع الإسرائيلي الفلسطيني وتصاعده، ولا إلى انفعاله بمعاناة الفلسطينيين. وكان القصد من مؤتمر أنابوليس الذي عقدته إدارة بوش في العام الماضي، هو التوصل إلى الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة في وقت متأخر من العام الحالي. لكن، وبدلاً من ميلاد هذه الدولة، غابت عن الأفق أدنى مؤشرات لإمكانية الإعلان عنها، وتدهور النزاع نحو الأسوأ بين الطرفين. وبالنتيجة يجلس الآن بوش ووزير خارجيته في وضع شديد التعقيد والمضي نحو الأسوأ باطراد، إذا ما قورن بالعام الماضي الذي انعقد فيه مؤتمر أنابوليس. واعتماداً على الحصانة التامة التي توفرها لها واشنطن، عملت إسرائيل على تسريع تنفيذ سياسات التوسع الاستيطاني، مصحوبة بالانهماك الذي لا يفتر في بناء الجدار الأمني وتعبيد الطرق الخاصة بالمستوطنين وحدهم دون سواهم، داخل الأراضي الفلسطينية. وكل ذلك يتم على حساب الدولة الفلسطينية التي توهمت إدارة بوش إمكان الإعلان عن ميلادها في أرض افتراضية لم يعد لها من وجود فعلي على الخريطة الفلسطينية! فمنذ انعقاد مؤتمر أنابوليس، هدمت الجرافات الإسرائيلية 94 منزلاً من منازل الفلسطينيين في القدس الشرقية، إلى جانب هدم 235 منزلاً آخر في أراضي الضفة الغربية. أما في قطاع غزة، فلا ينجو أي وجه من وجوه الحياة هناك من الحصار الخانق الذي تفرضه إسرائيل على القطاع. وبالنتيجة تعتمد نسبة 80 في المئة من السكان على المساعدات الإنسانية التي تقدمها لهم منظمات الغوث الإنساني. وفي ظل وضع كهذا فإن من الطبيعي أن تزداد معاناة الأطفال من سوء التغذية وأمراض فقر الدم. فبعد زيارة قامت بها ماري روبنسون -وهي أول امرأة تتولى رئاسة أيرلندا 1990/ 1997، كما عملت مفوضاً سامياً لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة 1997/2002- قالت معلقة على ما رأته في القطاع الأسبوع الماضي: لقد دمرت حضارة إنسانية بكاملها وتحولت إلى حطام. ومضت في استطراد آخر إلى القول: ليس بمقدوري أن أصدق أن المواطنين الإسرائيليين العاديين يدركون ما يجري هنا باسمهم من أفعال وممارسات. لا أظن أنهم سوف يدعمون هذه الممارسات فيما لو علموا بها. وفي غضون ذلك تتهدد التطورات والتحرشات مصير الهدنة التي تسعى فيها مصر بين إسرائيل وحركة "حماس" بدور الوساطة. ففي انتهاك صارخ لاتفاق وقف إطلاق النار بين الطرفين، توغلت القوات الإسرائيلية داخل أراضي القطاع يوم الثلاثاء قبل الماضي، بحجة تفجير نفق يزعم أنه ربما يستخدم في اختطاف الجنود الإسرائيليين. وأثناء ذلك التوغل قتل ستة من مقاتلي حركة "حماس"، فردت الأخيرة بإطلاق 50 صاروخاً من صواريخها على صحراء النقب، دون أن تقتل أو تصيب أياً من الإسرائيليين. يجدر بالذكر أن رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، ممثل الرباعية الدولية -المؤلفة من كل من الولايات المتحدة الأميركية والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا، والتي يزعم أنها الضامن الدولي لعملية سلام الشرق الأوسط- كان هو الآخر فاقداً للحيلة والفعالية، تماماً مثلما هي وزيرة الخارجية الأميركية رايس. بل لن نكون قد جنينا عليه إن قلنا إنه نسي "القطاع" وتجاهله بالمرة. وفي يوم الاثنين قبل الماضي عقدت كوندوليزا رايس اجتماعاً بمنتجع شرم الشيخ مع الرباعية الدولية والمسؤولين المصريين. إلا أن رايس نفسها سلمت سلفاً بحقيقة توقف عملية السلام، وبأنه لا بد للإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة أن يؤجل إلى حين تسمح الظروف السياسية بذلك، على حد تصريحها. لكن على العرب أن ينالوا قسطهم من اللوم على انهيار عملية السلام، ومن ثم تصاعد موجة العنف والعمليات الانتحارية التي ينفذها الفلسطينيون. والسبب الذي يدعوني إلى توجيه هذا اللوم هو التزام العرب للسلبية إزاء التصعيد والتطورات الخطيرة الجارية في فلسطين. خلافاً لهذا السلوك، يلاحظ أن إسرائيل قد ثابرت على امتداد العقود على تنظيم حملة مستمرة، استهدفت التأثير على الرأي العام الأميركي، وممارسة النفوذ على جميع الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض. كما استهدفت الحملة نفسها تعيين أصدقاء إسرائيل والمتعاطفين معها في أهم المناصب الحكومية الأميركية وأكثرها حساسية وتأثيراً. وفي المقابل يلاحظ إخفاق العرب خلال السنوات الأخيرة الماضية في استثمار مواردهم المالية الضخمة، بتحويلها إلى قوة سياسية ضاغطة لمصلحة إخوانهم الفلسطينيين. وفيما يبدو فإن دول الجوار العربي لا تدرك حقيقة أن هزيمة حلم الفلسطينيين وتطلعهم إلى إقامة دولتهم الخاصة المستقلة، لن تجلب إلى دول الجوار والمنطقة العربية عامة، سوى العنف والعواصف المدمرة وعدم الاستقرار. وما هزيمة الفلسطينيين سوى هزيمة للعالم العربي بأسره.