منذ تقسيم الهند البريطانية إلى كيانين متناقضين في كل شيء، وبروز قضية كشمير كبؤرة توتر في شبه القارة الهندية وكحائل دون تعاون قطبيها الكبيرين، والهند تلح وتردد أن المدخل الصحيح لمعالجة القضية الكشميرية هو تعزيز الثقة عن طريق الاقتصاد، بمعنى فتح الحدود للتبادل التجاري والانتقال الحر لمواطني شطري الإقليم المتنازع عليه، وذلك من منطلق فكرة بسيطة مفادها أنه حينما يجد أحد الطرفين أن له مصالح لدى الطرف الآخر، فإنه سيتمسك بالسلام ويدافع عنه ويحرص على إدامته بكل الوسائل. وبطبيعة الحال، فإن هذه ليست فكرة اقتصرت الدعوة إليها على الهنود وحدهم، بل استخدمها التايوانيون منذ الخمسينيات كمدخل لحل مشكلة التحاقهم بالوطن الأم. وفي فترة لاحقة طرح الإسرائيليون هذا المبدأ كعنوان عريض لحل مشكلة الشرق الأوسط برمتها. أما الجانب الباكستاني، فقد دأب على معارضة الفكرة جملة وتفصيلاً، مركزاً جهوده على مبدأ أن الحل يجب أن يكون سياسياً بمعنى أن تكون له السيادة الكاملة على كل كشمير، ومفترضاً أن هكذا نتيجة يمكن أن تسفر عنها أية عملية استفتاء شعبية حول الالتحاق بأي من القطرين بموجب قرارات الأمم المتحدة في عامي 1947 و 1948. وكان رأي الهنود دائماً أنهم لم يرفضوا قرارات الأمم المتحدة بشأن كشمير (خاصة وأنهم هم من أخذها إلى المحفل الدولي وليس الباكستانيون)، وإنما طالبوا فقط بأن ينفذ الباكستانيون أولًا البند الرئيسي في القرارات وهو سحب قواتهم من الأرض الكشميرية وإعادة الأحوال إلى ما كانت عليه عشية 15 أغسطس 1947 (تاريخ التقسيم). في مطلع أكتوبر الفائت، أي بعد أكثر من ستة عقود من هذه الأحداث، يبدو أن إسلام آباد اقتنعت بفكرة أن الحل يمكن أن يتأتي من خلال تنشيط حركة التجارة وانتقال الأفراد والأموال والبضائع ما بين شطري كشمير، أي الفكرة التي نافح عنها الهنود طويلاً دون أن يلقوا آذانا صاغية في إسلام آباد. ففي هذا التاريخ، ووسط إطلاق الحمائم البيضاء وتوزيع الحلويات التقليدية وشراب الورد والزعفران، أعيد افتتاح طريق طوله 170 كيلومتراً يربط بين عاصمة كشمير الهندية (سريناجار) وعاصمة كشمير الباكستانية (مظفر آباد)، ويسمى تاريخياً باسم "طريق وادي جهيلوم، الأمر الذي عد بمثابة تدشين لحقبة جديدة نحو مستقبل أفضل في علاقات الجارتين اللدودتين، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار أنه حتى الاتصالات الهاتفية عبر الهواتف النقالة لم تكن ممكنة ما بين شطري الولاية. وكان هذا الحدث المهم والتاريخي، الذي اشتمل على عبور 16 شاحنة هندية محملة بالتفاح وجوز الهند والعسل والملابس من كشمير الهندية إلى كشمير الباكستانية في الصباح وعبور 21 شاحنة باكستانية محملة بالأرز والزبيب في الاتجاه المعاكس بعد الظهر، قد سبقته ترتيبات قادها 19 من كبار رجال الأعمال الباكستانيين من كشمير بقيادة ذوالفقار عباسي الذين ذهبوا إلى سريناجار للإعداد لاستئناف عمليات التبادل التجاري، والتي بحسب أحد المصادر يستبعد أن تشهد زخما قوياً على الفور، وإنما يمكنها أن تتصاعد في الكم والنوع تدريجياً. وعلى حين أن طريق وادي جهيلوم وتفرعاته التي تربط سريناجار بنيودلهي، يُشكّل إغراءً لكشمير الباكستانية بعهد جديد من الانفتاح وقدوم رؤوس الأموال الأجنبية وتوفر السلع والبضائع الهندية المتنوعة بأسعار معقولة، فإنه من ناحية أخرى يمكن لهذا الطريق أن يتعرض لاعتداءات إرهابية بفعل التشنجات القومية والغلو الديني المتفشي، فتغلقه أو تعيق الحركة فيه، مما سيعيد الأمور إلى المربع الأول، خاصة مع وجود تجربة سابقة في هذا المجال. ففي عام 2005، وعلى أثر تحسن العلاقات الهندية - الباكستانية، قرر الطرفان تسيير حافلات ما بين شطري كشمير، غير أن استجابة العائلات الكشميرية المقسمة لتبادل الزيارات كانت محدودة بسبب خوفهم من تعرضهم للأعمال الإرهابية. ويمكن القول إن الفوائد المتحققة للجانب الباكستاني من فتح الحدود أمام التجارة بين شطري كشمير، يتأتى من صناعة التحف والمشغولات اليدوية والسجاد والأصواف والفواكه المجففة، التي هي عماد الاقتصاد الكشميري ( قيمة ما تصدره كشمير الباكستانية سنوياً من الفواكه المجففة فقط يصل إلى 600 مليون دولار). أما الفوائد المتحققة للجانب الهندي فهي، بحسب أحد كبار تجار الهند المستثمرين في كشمير الهندية، تتعلق بالوقت. حيث يمكن لشاحنة محملة بالخضروات والفواكه أن تصل من نيودلهي إلى مظفر آباد في خلال أربع ساعات في حالات عدم وجود اختناقات مرورية، وتصل إلى إسلام آباد في ست ساعات أو ثمان ساعات كحد أقصى بينما يتطلب الأمر 36 ساعة لتسيير شاحنة ما بين سريناجار ونيودلهي، وعددا أكبر من الساعات للوصول إلى مدن هندية أخرى. ويقول مبين شاه رئيس اتحاد غرفة تجارة وصناعة كشمير في تصريح صحفي: إن إعادة فتح الحدود ما بين شطري كشمير أمام التبادل التجاري، لن ينعكس إيجاباً على البلدين المعنيين فقط، وإنما أيضاً على منطقة الخليج، وذلك استناداً إلى مسح تجاري أظهر تصاعد الطلب في الأسواق الخليجية على منتجات كشميرية معينة. ومما قاله مبين شاه أيضاً: أن الانعكاسات الإيجابية الأخرى تشمل خلق الآلاف من فرص العمل الجديدة على جانبي طريق وادي جهيلوم في صورة وظائف تحتضنها الفنادق والمقاهي والموتيلات والمطاعم والمؤسسات الخدمية الأخرى. إحدى الصحف الباكستانية أجرت مقابلة مع رجل سبعيني يدعى غلام رسول، باعتباره من الجيل الذي عاصر حقبة ما قبل التقسيم وعرف دروب الاتجار مع كشمير. في هذه المقابلة: أخبر الرجل القراء بأن تجارة كشمير مع الهند وباكستان كانت تتم حصرياً من خلال طريق وادي جهيلوم، إذ لم تكن هناك طرق مباشرة تربط الولاية مع الهند الحالية أو حتى مع باكستان. ومما أضافه غلام رسول: أنه بتقسيم الهند البريطانية وانقسام كشمير إلى شطرين في عام 1947 اندثرت كل روابط وقنوات الاتصال ما بين هذين الشطرين، بل لجأ الجيشان الهندي والباكستاني إلى زرع الحدود الفاصلة بالألغام إيغالًا في فرض التقسيم. ومن المهم هنا الإشارة إلى أن كشمير الهندية بسكانها البالغ عددهم12 مليون نسمة وناتجها القومي الإجمالي الذي يتجاوز 8.5 مليار دولار والمغذى باقتصاديات الولايات الهندية القوية والمدعوم بالاستثمارات الاجنبية - خاصة في ظل حاجة الولاية إلى كل شيء ابتداء من الإبرة إلى الشاحنة - هي في وضع أفضل بكثير قياساً بوضع كشمير الباكستانية، التي تركت مهملة لفترة طويلة في ظل اللااستقرار السياسي في باكستان والخلافات القبلية والجهوية والحروب المتكررة مع الهند والإنفاق الكبير على التسلح، هذا على رغم أن عدد سكانها هو ربع عدد سكان كشمير الهندية ومساحتها، هي نصف مساحة الأخيرة. وليس أدل على صحة ما نقول إنه في آخر ميزانية باكستانية عامة، لم تحظ كشمير إلا بخطط تنموية تقل قيمتها عن 500 مليون دولار. رغم كل هذه التطورات، لا تزال ضمائر وعقول صناع القرار في البلدين التوأمين تكتنفها الهواجس والشكوك. فهناك هواجس في نيودلهي وإسلام آباد معاً مصدرها أن التوسع في التبادل التجاري ما بين الهنود و الكشميريين الباكستانيين، قد يشجع الأخيرين على المطالبة بالانفصال في دولة طالما أن هذه الدولة قوية اقتصادياً وقابلة للعيش. إلى ذلك هناك هواجس في إسلام آباد تجاه المضي قدماً في هذه الخطوة خوفاً من إغراق الهنود للأسواق الباكستانية بالسلع الهندية الرخيصة، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار العجز في الميزان التجاري الباكستاني والذي وصل هذا العام إلى 20 مليار دولار - من ضمنه عجز بقيمة مليار دولار مع الهند - مع توقعات بصعود الرقم إلى 3 مليارات بعد فتح الحدود عبر كشمير، وما قد يغري البلدين بفتح الحدود عبر ولايات أخرى.