متى سنقول كفى للحديث عن "الأزمة المالية العالمية"؟ ومن يستطيع ذلك أساساً؟ وإلى أي موضوع يمكن أن نجذب نظر القارئ، ما لم تؤدِ بنا المحاولة إلى الأزمة مرة أخرى؟ بدا لي السؤال ملفتاً، والناس في حضور دائم لمهرجانات السينما والمسرح وندوات الآثار والتراث، بل والاستراتيجيات السياسية الكبرى، ومع ذلك يظل هناك إحساس دائم "بالأزمة" في مجال الثقافة مثلها في مجال المال... والأعمال! لكني اكتشف تدريجياً أن الأزمة مصدرها هنا بالتحديد، وهو أن النشاط الثقافي، غير الاستراتيجية الثقافية، وغير وضع الفكر العربي في بوتقة الفكر العالمي، شماله وجنوبه... وحينما رحت أبحث عن مصدر الضيق في صياغات هذا الأمر بدوره، لاحظت بسرعة أننا نضع "عالم الفكر" في إطار "النشاط الثقافي" بدلاً من تجذيره في عمق اللحظة الفكرية... ولذا يبدو لنا أن معالجات الثقافة وما نسميه فكراً، يأتى في أحيان كثيرة وكأننا نعالج "أزمة". مثل أزمة المال والأعمال، بل إننا لاننتبه، ولا نفرغ أنفسنا "للأعمال الفكرية" بحق إلا عندما يتعلق الأمر بأزمة، هي أقرب للمعارك، منها للعمل الفكري. وأظن أن حديث "السُنة والشيعة" وغيرهما أقرب إلى إيضاح هذا المثل... فكم من وقت، وكم من أبعاد ظهرت في مسائل هي من أعمق أبعاد الفكر في حياتنا دون معالجة فكرية هادئة، وليست بمنطق إدارة معركة أو أزمة طاحنة بين شعوبنا، لتأتي أزمة السُنة والشيعة كأنها كذلك؟ وقد قست على ذلك توقف الحديث مثلاً عن مضمون حركات الجامعة مثل الجامعة العربية أو الأفريقية "بان أفريكانزم" أو الإسلامية... الخ. كان تعميق حديث الجامعة العربية ونشأتها على يد عدد من الشخصيات المسيحية إلى جانب المسلمين، سيوقف هذه الاندفاعات "الثقافية" أمام الحديث عن "الفتنة بين مسيحيين ومسلمين" في بعض الأقطار العربية. وبالمثل كان التناول الفكري الحديث "الجامعة الإسلامية" على يد جمال الدين الافغاني وغيره سيفسر لنا الكثير من المعرفة عن الأدوار المتنوعة في الحركة مشرقاً ومغرباً. وكان حديث "البان أفريكانزم" والجامعة العربية معاً سيعالج قضايا العلاقات العربية- الأفريقية بمناهج أخرى. معنى ذلك أن حديث "النشاط الثقافي" فقط لا يعالج "الأزمة الفكرية الحقيقية" في منطقتنا والعالم، ولذلك يشعر المرء أن مؤتمرات كبرى تسهم فيها المنطقة لا تصل إلى مبتغاها طالما تظل تتوقف عند "النشاط الثقافي أو السياسي" العام، وليس إلى عالم معالجة الأفكار الكبرى. وقد لا نرغب في التعليق المبكر على النتائج "الفكرية" للقاء نيويورك حول حوار الأديان، بل وعمقه في أنشطة حوار الحضارات... إلخ، ولكنا سنلاحظ بالطبع أنه لا يصب في "عالم الفكر" كثيراً، لتظل قضايا الفكر الديني العميقة تواجهنا في كل موقع من "اليهودية المسيحية" إلى جوهر الشيعية والسُنية، وتراتب أو أفقية الأديان والرسالات السماوية، بل و"الأديان الإنسانية" في آسيا، والمعتقدات الروحانية "الانيميزم" في أفريقيا، وكلها تعني الملايين أو المليارات من البشر. كل هذه القضايا طوتها الرغبة في النشاط الثقافي السياسي، ولم تشملها بعد معالجات فكرية رصينة تقدم للمواطن العربي مع غيره صيغاً متعددة معترفاً بها لحياته. لقد أدهشني أن يتحدث فقهاء إسلاميون عن تطويع الإسلام للعالم الغربي، بل أسماه البعض الإسلام الأوروبي، وهم الذين رفضوا من قبل تكيف الإسلام نفسه وتلقائياً مع الحياة الأفريقية. بالمثل راقبت الملتقيات الكبرى المسماة فكرية، وهي تدور حول ثقافة التنمية أو"التنمية الثقافية"، ولاشك أنه مطلوب أيضاً الانشغال بالأبعاد الثقافية للتنمية، حيث يحد ذلك، ولو نسبياً من تغوٌّل "الأزمة المالية" على كافة مناحي حياتنا. وفي معظم هذه المحاولات، أشعر فعلاً أنها ليست مجرد نشاط ثقافي، بقدر ما شعرت في بعض جوانبه بـ"البعد الدفاعي" عن واقعنا الثقافي، وليس- حتى- الفكري! ففي معظم هذه الملتقيات، نقرأ في فورة حماسها أنها رصد للإيجابيات والمنجزات الثقافية، للرد على ما أشيع "عنا" من جفاف ثقافي أو عجز في الإبداع والإضافة الثقافية... الخ. وأظن أن في أذهان الكثيرين الرد على محتوى سابق لتقرير التنمية البشرية، والإنسانية... الخ. وهذا الموقف الدفاعي هو ما سيحول أي مؤسسة فكرية إلى مجرد مؤسسة ثقافية، تبث إنتاجاً إضافياً، إيجابياً كان أو سلبياً، وسنتجاهل مرة أخرى عمق الحاجات الفكرية الأساسية إنْ جاز التعبير. ولا أتصور أن نشاطاً ثقافياً إبداعياً حقيقياً يمكنه أن يتجاوز قضايا التنوع الثقافي والفكري الذي يعوق مجمل التنمية الإنسانية في بلادنا، وإذا كنا مازلنا لا نستطيع عبور أزمة فكرية بين سُنة وشيعة بهذا الشكل، فكيف سنعالج مع إخوة لنا أبعاد أزمات فكرية حقيقية أخرى في العوالم المحيطة بنا. ولنلاحظ أن دور الترجمة من العربية وإليها لعدد من لغات العالم الأول وحتى الرابع لم يعالج بعد جيداً. وحيث اقتربت من نقطة انطلاقي المقصودة هنا أو قل "مربط الفرس" كما نقول في مصر، أن عدم المعالجة- على مستوى عربي- لقضايا فكرية مجذرة عربياً، تشكل لنا تعويضاً عضوياً على مستوى علاقاتنا مع العالم المحيط يعتبر موقفاً مؤسفاً. فإذا اتفقنا أولاً على الحاجة للخروج مبدئياً من عالم "حوارات الغرب" المزعجة هذه، فسوف تواجهنا قضايا ملحة أخرى تسهل معرفتها تنمية علاقاتنا لعوالم الجوار الأخرى، التي نحتاجها بالحاح الآن حتى في "أزماتنا المالية"... وثمة أسئلة كبيرة تدخل في عوالم الثقافة والفكر في بعدها الأساسي، وليس مجرد موائد الحوار أو المنتديات التقليدية. والسؤال جدير أن يوجه لأصحاب صراع المذاهب القائم في منطقتنا، هل ثمة معرفة قيمة "بلاهوت التحرير" الذي تأسس منذ الستينيات في أميركا اللاتينية، ولم يتعرف عليه مشايخنا بعد بدلاً من حديث التواريخ وشروح الفرائض الخمس التي لا ينقصها الشرح؟ هل قرأنا في اقترابنا من مناطق واسعة مثل غرب أفريقيا- وتضم مساحة بشرية "أكبر من العالم العربي- عن "المريدية" والتيجانية والفودية- وكلهم سنة محمدية- وأثر ذلك في معتقدات الجهاد، بل والتحالفات القائمة بين فصائل راديكالية ومعتدلة في المنطقة- ويخصص الأميركيون لها الملايين لدراستها حالياً خوفاً من تبنيها للأفكار الإرهابية، التي يكتب البعض عن شيوعها هناك بالفعل!. هل تعرفنا على مشاكل الإسماعيلية بين شرق وجنوب أفريقيا، بل ومشاكل تؤدي لقتال أحياناً بين "الظهرية" وقصر صلاة الجمعة في أنحاء من وسط وشرق أفريقيا، وأثر ذلك على بعض أشكال الانتماء في منطقة البحيرات الكبرى؟ وهل أنتبه مثقفونا خارج الدائرة الإسلامية إلى أثر "السلفية المسيحية" نفسها في شرق وجنوب أفريقيا، وقد لاحظنا نشاط البابا السابق مع هذه ضد تلك في هذه المنطقة بعد زياراته للكونغو والكاميرون وغيرهما؟ هل لاحظنا البعد الفكري، وهو أبعد من الإسلام السلفي، بل وأبعد عن الإسلام نفسه، في مناطق الشرق الآسيوي، ليس في ماليزيا وحدها بل في الفلبين، والقارة الصينية؟ أقصد أننا إزاء صراع فكري واسع على مستوى عالمي، يدخل فيه العرب شاءوا أم لم يشاءوا إلى الساحات الآسيوية والأفريقية وأميركا اللاتينية "ليجدوا أنفسهم" كشعوب قطرية أو "أمة عربية" في الوسط الضرورى لضمان الحد الأدنى من الوجود المستقبلي. وهذا ما يجعلنا نتمنى على مثقفينا أن يؤكدوا وعيهم بالفارق الذي يزداد وضوحاً بين النشاط والعمل الثقافي وبين المعالجة والالتزام الفكري بقضايا الواقع والمستقبل، وأن ذلك لابد أن يكون موقع الرصد، بصراحة وشفافية في تقارير التنمية الثقافية والبشرية على السواء.