تقدم سجلات التاريخ وكتبه دروساً وعبراً غالباً ما يجري تجاهلها أو التقليل من أهميتها من قبل من ينبغي أن ينتبه إليها· وفي هذه الحال، يتساءل الكثيرون: لماذا لا تستخلص الدروس والعبر المعنية من موقع المعنيين؟ وغالباً ما يرجع أولئك أسباب ذلك إلى غياب الحكمة أو قلّتها لدى من عليه أن يظهرها· وليس هذا خطأ في ذاته، لكن إرجاع الموقف إلى هذا السبب وحده لعله يمثل حقيقة ناقصة· أما ما قد يتمم هذه الحقيقة ويعمقها فيقوم على النظر إلى الموقف في ضوء المصالح الاقتصادية والجوسياسية· وهذا ما يمكن استنباطه من الموقف الأميركي من العراق في مرحلة التحضير للحرب وما بعدها، ومن موقف آخر له عمق تاريخي وأهمية استراتيجية في السياسة الفرنسية، التي أعقبت الثورة الفرنسية الكبرى لعام ،1797 وما كان له علاقة مباشرة بغزو مصر من قبل بونابرت·
ففي سياق التحضير لذلك الغزو الفرنسي لمصر والذي حدث عام ،1798 كتب وزير خارجية فرنسا الثورة تاليران بتاريخ 14 فبراير 1798 تقريراً وجهه إلى حكومة الإدارة هناك، جاء فيه: إن أهالي مصر قاطبة يكرهون حكامهم المماليك الذين يسومونهم الظلم والاضطهاد·· فإنهم لا شك سيحاربون بـ(السلاح) طائفة المماليك أنفسهم· فليس ثمة خوف من مقاومة أو وثبة من الأهالي · لقد اعتقد تاليران أن المصريين المضطهدين من المماليك، كانوا ينتظرون من يحررهم من الخارج· ومن ثم، فإن دخول نابليون إلى مصر يأتي -حسب تاليران- في وقته· ولكن الأحداث التي تلت الغزو دللت على خطأ وخطل التقدير الفرنسي· فلقد اكتشف المصريون -بتجربتهم الحية التي تمثلت في المقاومة ضد الغزاة- أن الفرنسيين دخلوا بلدهم مستعمرين وليسوا محرّرين، مستعمرين يبحثون عن مصالحهم الاستعمارية الجشعة المضادة لمصالح الشعب المصري: لم يجد المصريون أنفسهم أمام خيارين متمايزين، المماليك أو الفرنسيين، إنما رأوا في هذين الفريقين كليهما حالة واحدة تتلخص في أنهما قوى غاشمة مغتصبة لحريتهم وكرامتهم واستقلال بلادهم· لقد كان على نابليون أن يجرّ ذيول هزيمة نكراء تلقاها على أيدي الشعب المصري، فترك مصر وهو يدرك أهمية ما أتت به ثورة بلاده (الثورة الفرنسية) من مبادئ خانها، وفي مقدمتها مبدأ الحرية·
ذلك موقف في التاريخ الحديث، وموقف آخر يبرز في المرحلة المعاصرة بصيغة الحرب الأميركية على العراق· ها هنا، كذلك ومن موقع عقل ذرائعي (براغماتي) مصالحي، يقدم الأميركيون برئاسة بوش الإبن على انتهاك حرمة بلد ذي سيادة مُقرّ بها دولياً، معتقدين أن الشعب العراقي سيجد في دخولهم إلى بلاده تحريراً من طغيان النظام السياسي السابق واستبداده· لكن ما إن انتهت الأحداث العسكرية باحتلال الأميركيين للعراق، حتى بدا الأمر وكأنه بداية جديدة لأحداث عسكرية أخرى، أخذت اسمها شيئاً فشيئاً وهو المقاومة ، مقاومة الوجود الأميركي في العراق·
لقد أخفق الأميركيون مرتين اثنتين، مرة حين هاجموا العراق بحجة أنه يمتلك أسلحة دمار شامل تبين أنها ذريعة لهذا الهجوم الاستعماري الأحمق، ومرة أخرى حين خاب تقديرهم بأن الشعب العراقي يستقبلهم بالورود · وفي هذا وذاك، وقفت الإدارة الأميركية عارية أمام العراقيين، وشعوب العالم، وشعبها ذاته، بوصفها قوة عسكرية غازية تفتقد الحد الأدنى من الشرعية القانونية الدولية، ومن المصداقية الأخلاقية والإنسانية· إذاً، لماذا فعلوا ذلك، فأدخلوا العالم في نفق مرعب من الاضطراب والتصدع على صعيد الاقتصاد والآخر السياسة والثالث العلاقات الدولية وغيرها كثير·
في هذه الحال، لن يكون خطأ أن يقف الرئيس بوش ليعلن أمام العالم أنه ومجموعته السياسية والعسكرية والمالية قد ارتكبوا خطأ قاتلاً بما فعلوه مع العراق، وأنهم يستعدون لمغادرته حفاظاً على شعب العراق واستقلاله وسيادته، وكذلك حفاظاً على دماء الشباب العسكري الأميركي والبريطاني والكندي، والحبل على الجّرار !.