ربما يعد كتاب "الرد على الوهابية في القرن التاسع عشر، نصوص من الغرب الإسلامي نموذجاً"، أول جردة وافية للردود التي وضعت في دحض الدعوة الوهابية من طرف علماء السنة شرقاً وغرباً، فهو يستند إلى مسح شامل لمخطوطات مبعثرة في مكتبات عربية وأجنبية، ويدقق بصفة خاصة فيما نشر ويحقق فيما لم ينشر من ردود علماء الغرب الإسلامي على هذ الدعوة. وفيما يتوسع الكتاب في تناول الردود التي كتبها علماء تونس والمغرب الأقصى، فذلك لأن علماء بقية بلاد المغرب العربي لم يشاركوا في هذا الجدل الذي دارت رحاه منذ بداية الدعوة الوهابية. وكما هو معلوم فقد ظهرت الحركة الوهابية في نجد أوائل العقد الرابع من القرن الثامن عشر، على أساس ميثاق يدعو إلى التوحيد وينادي بجهاد الضلالة والزيغ والردة. وقد انتشرت الحركة واتسع نفوذها واستولت على الحجاز، فجرد الخيديو إبراهيم باشا حملة عسكرية لمواجهتها عام 1818. وفي ذلك الأثناء واجهت دعوة محمد بن عبدالوهاب، هجوماً واسعاً من طرف بعض العلماء السنة في الجزيرة العربية نفسها، وفي العراق الذي زار بن عبدالوهاب مدينة البصرة فيه وراسل بعض علمائه وكفّر شيعته، وفي اليمن أيضاً، وسوريا، وفي الهند كذلك. وكما يوضح الكتاب، فإن انخراط علماء الغرب الإسلامي في الجدل الذي دار حينئذ حول الوهابية، وقد بدأ في الشرق أولاً، يعود إلى ما قيل بعد استيلاء الوهابيين على الحجاز من أنهم منعوا الناس من زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وارتياد الأضرحة والمزارات والمواقع التي اعتاد المسلمون زيارتها تبركاً. كما تعود تلك الردود أيضاً إلى الرسائل التي بعث بها مؤسس الدعوة الوهابية نفسه الشيخ محمد بن عبدالوهاب. لكن المصادر تختلف حول نوعية هذه النصوص، وظروف ورودها وتاريخه. بيد أن مؤلفي الكتاب يرجحان أنها وردت إلى تونس والمغرب الأقصى بين عامي 1803 و1811، وهي في المجمل ثلاثة نصوص؛ أولها "كشف الشبهات"، أو ما يسميه المغاربة "الرسالة الطويلة" لكونه يتألف من 20 ورقة، وثانيها "ورقة الوهابي"، والتي تعرف أيضاً باسمي "رسالة القاهرة" و"رسالة إلى أهل المغرب" أو "الرسالة القصيرة" (ورقتان فقط). أما النص الثالث فهو كتاب "القواعد الأربع". وعن كيفية وصول هذه النصوص الوهابية، يميل المؤلفان إلى القول بأنها وصلت تونس عبر الحجيج وعلى نحو عفوي وغير رسمي إلى بلغت الوالي حمودة باشا، فأوعز لبعض العلماء بالرد عليها. أما بالنسبة للمغرب فالأرجح أن الرسائل الوهابية وصلت هناك مباشرة إلى السلطان المولى سليمان من قبل سعود بن عبدالعزيز داعياً إياه إلى اعتناق المذهب. ومهما يكن، فالظاهر أن ثمة علماء في تونس والمغرب الأقصى، تصدوا للرد على الدعوة الوهابية، وكان بعض هذه الردود تلقائياً، وبعضها الآخر كان بطلب من ولي الأمر. ورغم تشابه الردود الصادرة من القطرين، في مرحلة أولى على الأقل، فإنها انطبعت بخصوصية قطرها، وهي الخصوصية التي انعكست أيضاً على المواقف الرسمية الصادرة عنه. فتونس كانت إيالة تابعة للباب العالي، والباي حموده باشا هو ممثل السلطة العثمانية. أما المغرب فلم يخضع لتلك السلطة، وكان مستقلا عنها، وكان السلطان المولى سليمان، ومن قبله والده، يجمع بين السياسة والعلم الشرعي. هذا واشتملت الردود التونسية على رسالتين هما: "رسالة في الرد على الوهابي" لأبي حفص عمر بن قاسم المحجوب، و"المنح الإلهية في الرد على الوهابية" لإسماعيل التميمي. أما بالنسبة للردود المغربية فهي أربعة: "الرد على الوهابية" للطيب بن كيران، و"رسالة في الرد على مبتدعة أهل البدو وناحية الشرق" لمؤلف مجهول، و"رسالة المولى سليمان إلى سعود" من وضع الطيب بن كيران، وأخيراً قصيدة حمدون بن الحاج الفاسي. وفيما اهتم القسم الأول من الكتاب، بتقديم قراءة حول الدلالات التاريخية والفكرية لهذه الرسائل، ضمن منهجيات التاريخ الثقافي وتاريخ الأفكار، فإن قسمه الثاني تمحض بالكامل لنصوص الرسائل الوهابية ذاتها ونصوص الردود التي كتبها العلماء التوانسة والمغاربة على تلك الرسائل. وقد تناولت الردود قضايا دينية تندرج كلها في فلك الأحكام التعبدية والاعتقادية؛ ومن ذلك حقائق الإيمان، والإسلام، والكفر، والشرك، والبدعة... وقضايا أخرى مثل: الشفاعة، والاستغاثة، والتبرك، والقربات المحرمة، والبناء على الأضرحة والقبور، وإشادة القباب، وشد الرحال تعبداً إلى غير المساجد الثلاثة... إضافة إلى موضوعات أخرى مثل: الخوارق، والمعجزات، والكرامات، وتقبيل المعظم، وذبح الذبائح وتقديم النذور... وموضوع "الطائفة الظاهرة". وبشكل عام فإن هذه الردود تأخذ على ابن عبدالوهاب تشنيعه لبعض البدع القليلة وتضخيم خطر أمرها، وهي في نظر أصحاب الردود مجرد تعبير من عامة الناس عن تعلقهم بالإسلام وبرسوله خاتم النبيين، لكن صاحب الرسائل الوهابية عدها من أعمال الضلال والشرك التي لا تغفر. وأكثر ما أثار غضب أولئك العلماء هو موقفه المنكِر على من يقومون بزيارة ضريح الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما جاء في رسالة إسماعيل التميمي: "إن رجلاً ممن ينتحل الطلب يقال له محمد بن عبدالوهاب... منع زيارة النبي عليه الصلاة والسلام والتوسل به إلى الله سبحانه وتعالى في نيل المرام والاستغاثة به في المعضلات والإلتجاء إليه في الملمات... فشنّع على أهل عصره ما هم عليه...". وعموماً فإنه رغم فرادة موضوع الكتاب، وأهمية الوثائق الثمينة التي ينهض عليها، لكنه لم يخف انحيازه، بل تحامله ضد الدعوة الوهابية منذ صفحاته الأولى، محملا نفسه أعباء المرحلة الحالية بما يطبعها من صراع ضد جماعات "الإسلام السياسي"، وهو انشغال يقع خارج اشتراطات الانضباط المنهجي في دراسة كهذه، كان يمكن أن تكون أكثر علمية وأجزى فائدة في مجالها! محمد ولد المنى ---------- الكتاب: الرد على الوهابية في القرن التاسع عشر المؤلفان: حمادي الرديسي، وأسماء نويرة الناشر: دار الطليعة تاريخ النشر: 2008