مع التأثير المستمر للأزمة المالية على الاقتصاد الأميركي وانتقالها إلى قطاعات حيوية كان آخرها صناعة السيارات من الطبيعي أن تتصاعد الأصوات المطالبة بالتصدي للأزمة وإرجاع الثقة إلى الاقتصاد. ومن الخيارات المطروحة أمام المسؤولين الأميركيين، لاسيما الرئيس المنتخب أوباما، تعزيز برامج الإنفاق الحكومي والانخراط في مشاريع كبرى تساعد على تنشيط الاقتصاد وتدرأ خطر البطالة. لكن في الوقت الذي يسعى فيه المسؤولون إلى التخفيف من تبعات الأزمة الاقتصادية على جيوب المواطنين ومستوى معيشتهم عبر تسهيل القروض وخفض سعر الفائدة... يحذر المعلق الاقتصادي "روبرت صامويلسون" في كتابه الذي نعرضه هنا، وعنوانه "التضخم الكبير وتداعياته: ماضي ومستقبل الرخاء الأميركي"، من مغبة الانجرار وراء مشاريع الإنقاذ وخطط إنعاش الاقتصاد على حساب الإخلال بتوازنات أخرى. والحقيقة أن الكتاب يأتي قبل تسلم الرئيس أوباما السلطة رسمياً في شهر يناير المقبل، لتحذيره من انقلاب السياسات الحالية الرامية إلى تحفيز الاقتصاد وانتشاله من أزمته الخانقة إلى كارثة أكبر في حال تصاعد معدلات التضخم، مثلما حدث خلال سبيعنيات وثمانينيات القرن الماضي. فحسب الكاتب غالباً ما يكون الطريق إلى الجحيم مفروشاً بالنوايا الحسنة، وهي النويا ذاتها التي قادت في مرحلة مفصلية من التاريخ الاقتصادي الأميركي إلى "التضخم الكبير" الذي طال كل شيء. وعلى غرار الكساد الكبير يحيل التضخم الكبير إلى فترة بعينها بدأت في منتصف الستينيات عندما كانت نسبة التضخم محصورة في رقم واحد وانتهت خلال الثمانينيات حينما صعدت أسعار السلع على نحو جنوني ووصلت نسبة التضخم إلى رقمين. ومع أن مرحلة التضخم الكبير خلفت ندوباً واضحة وجراحاً غائرة في الجسم الاقتصادي الأميركي لم تزل حاضرة في أذهان جيل كامل من الأميركيين، ينبه الكاتب إلى أنها ربما بدأت تغيب عن أعين المسؤولين في ظل الأزمة الحالية وطابعها الاستعجالي الذي يستدعي تدخلا طارئاً ربما يحجب دروس التاريخ. ولتوضيح فداحة المرحلة التي اكتوى بها الأميركيون خلال العقود الماضية يعود بنا الكاتب إلى عام 1976 حيث كان مؤشر أسعار الاستهلاك لا يتجاوز 4.9% ليصعد في غضون سنوات قليلة فقط إلى 13.3% عام 1979، ثم ليستقر في حدود 12.5% خلال الثمانينيات، وبالطبع مع الصعود الكبير للأسعار تراجعت الإنتاجية وانحدر معها المستوى المعيشي للسكان ما نجم عنه انسحاب المستثمرين من أسواق الأسهم وتفاقم مشاكل القروض. لكن السؤال الذي يربط التاريخ بالحاضر ويعيد وصل الماضي بالراهن هو: من كان المسؤول عن هذا التضخم الكبير الذي ضرب أميركا في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي؟ للإجابة على السؤال يرجع الكاتب إلى جذور الأزمة وتحديداً إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كان الهم الأكبر للأميركيين، الذين لم تغادرهم بعد الذكرى الأليمة للكساد الكبير، تحجيم البطالة وتوفير الوظائف لأكبر قدر من المواطنين، وهو ما عبر عنه الرئيس هاري ترومان في عام 1947 عندما قال: "مهمتنا اليوم هي التأكد من أن أميركا لن تدخل من جديد مرحلة الكساد ولن تعصف بها معدلات البطالة المرتفعة". هذه السياسة وجدت صداها لدى الرؤساء الأميركيين المتعاقبين على البيت الأبيض سواء من الحزب الديمقراطي أو الجمهوري لتبلغ الذروة في عهد الرئيس جون كنيدي الذي لم يكتف بمكافحة البطالة واستحداث الوظائف، بل دعا إلى "توظيف كامل للأميركيين". وهكذا انخرطت الإدارات الأميركية من ليندون جنسون وريتشارد نيكسون وصولا إلى جيمي كارتر، في سياسات أساسها الأفكار الكينيزية الداعية إلى تدخل الدولة لضبط تقلبات السوق وتفادي الركود. لكن سرعان ما أطل شبح التضخم بوجهه البشع كنتيجة منطقية لتلك السياسات والانشغال الكبير بخلق الوظائف وتحفيز النمو الاقتصادي، إذ ابتداءً من منتصف الستينيات كانت السياسات ذاتها الموجهة لتعزيز سوق العمل مثل خفض الضرائب وتقليص سعر الفائدة وتسهيل القروض، تدفع بالأسعار إلى الصعود. وهنا يدخل كتاب صامويلسون إلى جزئه البطولي الذي يشير فيه إلى الرئيس الأميركي رونالد ريجان ومدير الاحتياطي الفدرالي بول فولكر اللذين اقتحما مسرح الأحداث وأخذا زمام المبادرة بعدما ساءت الأوضاع ووصل التضخم إلى مستويات قياسية. فقد أشرف الاحتياطي الفدرالي على سياسات تسير في عكس الاتجاه الذي كان سائداً إلى حدود اللحظة مثل فرض قيود على حركة المال والقروض في محاولة للجم جموح التضخم، رغم التداعيات القاسية لذلك مثل ارتفاع البطالة إلى 10.8%. غير أن الدعم السياسي للرئيس ريجان منح فولكر مجالا واسعاً للحركة والمضي قدماً في سياسات التقشف التي أخمدت لهيب التضخم وأرجعته في النهاية إلى مستويات معقولة. وبعد هذا العرض الذي يقدمه المؤلف حول أسباب التضخم الكبير في السبعينيات، يمكن بسهولة استشفاف تحذيره المبطن من السياسات التي قد يتبعها أوباما لمواجهة الأزمة المالية، لاسيما في ظل التوجه الطاغي حالياً بفتح خزائن الدولة أمام مشاريع إنفاقية كبيرة لوأد البطالة وزحزحة الاقتصاد من ركوده وما قد يترتب عليه من تكرار للأخطاء السابقة. زهير الكساب ----------- الكتاب: التضخم الكبير وتداعياته: ماضي ومستقبل الرخاء الأميركي المؤلف: روبرت صامويلسون الناشر: راندوم هاوس تاريخ النشر: 2008