في انتهاك صارخ للقانون الدولي، شددت إسرائيل حصارها الخانق على قطاع غزة، فارضة بذلك عقوبتها الجماعية على مواطنيه البالغ تعدادهم 1.5 مليون نسمة. وبسبب إغلاق إسرائيل للمعابر والمنافذ المؤدية إلى القطاع، لم تعد وكالات الغوث الإنساني التابعة للأمم المتحدة، قادرة على توصيل مساعداتها الغذئية التي يعتمد عليها نحو 750 ألف مواطن من مواطني القطاع. وفوق ذلك، توقفت إسرائيل عن إمداد محطة الطاقة الوحيدة في القطاع بما تحتاجه من وقود، مما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي عن نصف السكان. وهكذا انزلق القطاع إلى متاهة الدمار والجوع والعزلة الدولية والشلل الاقتصادي التام. وقد أخطأ المجتمع الدولي بإهماله ولا مبالاته بفظاعة إسرائيل إزاء "الأسرى" الفلسطينيين في كل من القطاع والضفة الغربية، مع العلم أن هذه المرة تعد الأفظع والأشد. وفي كل من مقر الأمم المتحدة في نيويورك، وفي الدوائر الحكومية في كل من لندن وباريس، بل في واشنطن نفسها -وهي تتحفز لانتقال الإدارة من الرئيس الحالي جورج بوش إلى الرئيس المنتخب باراك أوباما- هناك شعور عام بأن الوضع في الأراضي الفلسطينية بات مثيراً للقلق، وربما يؤدي الانفجار المتوقع إلى إشعال المنطقة بأسرها. يذكر أن اثنتي عشرة وكالة أممية، حذرت من حدوث كارثة إنسانية، بينما كرر الأمين العام للأمم المتحدة -بان كي مون- تحذيره لإسرائيل من انتهاك حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي. غير أن إسرائيل تبدو لا مبالية بهذه التحذيرات والنداءات. بل على نقيض ذلك تماماً أزهقت إسرائيل أرواح 514 من الفلسطينيين إلى جانب إصابتها لنحو 2.112 ألف، يكثر بينهم الأطفال، خلال العام الماضي الممتد بين انعقاد مؤتمر أنابوليس في السابع والعشرين من نوفمبر عام 2007 وشهر نوفمبر الحالي، مع الإشارة إلى أن الهدف الرئيسي، الذي عقد من أجله مؤتمر أنابوليس، هو استئناف عملية السلام. ليس ذلك فحسب، بل هدمت الجرافات الإسرائيلية 330 بيتاً من بيوت الفلسطينيين، بما فيها حوالي 95 بيتاً في القدس الشرقية. وفي المقابل، أصدرت إسرائيل عطاءات لإنشاء 2210 وحدات سكنية جديدة لمستوطناتها غير المشروعة في كل من الضفة الغربية والقدس الشرقية! وبين هذه الاعتداءات جميعها قيدت إسرائيل حركة الفلسطينيين في الضفة الغربية بإنشائها لحوالي 630 نقطة من نقاط التفتيش وحواجز الطرق، بينما استمرت معاناتهم من تكرار الهجمات عليهم وتعرضهم للإهانات المنتظمة على يد الجنود الإسرائيليين والمتطرفين من المستوطنين على حد سواء. في خطوة استثنائية وفريدة من نوعها، اتهمت سويسرا إسرائيل علناً الأسبوع الماضي، من خلال مذكرة شديدة اللهجة وجهتها إليها، بهدم بيوت الفلسطينيين في القدس الشرقية والمناطق المجاورة لرام الله، ما يمثل انتهاكاً لنصوص ومواثيق معاهدة جنيف الرابعة لعام 1949، وهي المعاهدة التي أرست واجبات القوة المحتلة إزاء السكان المحتلين. ومن جانبها، عبرت بريطانيا عن رفضها تمديد إعفاء السلع والبضائع المنتجة أو الناشئة عن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية من التعرفة والرسوم الجمركية. يذكر أن الأزمة الحالية في قطاع غزة، كانت قد بدأت في الرابع من شهر نوفمبر الجاري، على إثر اجتياح القوات الإسرائيلية لأراضي القطاع -في انتهاك صارخ لهدنة إطلاق النيران السارية لمدة ستة أشهر، المبرمة بين إسرائيل وحركة "حماس"- بحجة هدم نفق زعمت إسرائيل أنه ربما يستخدم في حال اكتماله لأغراض اختطاف جنودها. وأثناء تنفيذ تلك العملية لقي ستة من أعضاء حركة "حماس" حتفهم، بينما صرع خمسة آخرون أثناء غارة شنتها القوات الإسرائيلية على القطاع. ومن ناحيتها، ردت حركة "حماس" على هذه الاعتداءات المتكررة، بإطلاق عدد من صواريخها محلية الصنع على ضاحية سديروت الإسرائيلية الواقعة في صحراء النقب، لم تسفر إلا عن وقوع إصابات طفيفة بين عدد من السكان، بينما لا يزال عدد آخر يُعالج نفسياً من تأثيرات "صدمة الصواريخ"! وما لم تمدد فترة سريان الهدنة الحالية، فإن المتوقع لها أن تنتهي بحلول يوم 19 من شهر ديسمبر المقبل. والملاحظ أن كلا الطرفين يرغب في تمديدها... ولكن وفق شروطه الخاصة. فمن ناحيتها، تريد "حماس" أن يأتي التمديد مصحوباً بإعادة فتح المعابر، بينما تريد إسرائيل الاحتفاظ بحريتها الكاملة في تجويع الفلسطينيين ومواصلة فرض الحصار عليهم، على أمل الإطاحة بحكومة "حماس". وبينما تأمل "حماس" أن تشمل الهدنة بينها وإسرائيل أراضي الضفة الغربية، تعارض إسرائيل بشدة هذا المطلب. وكما نرى، فإن طموح إسرائيل هو التمتع بحرية مطلقة في قتل الآخر، دون أن يكون لهذا الآخر حق الرد على اعتداءاتها. وهي تريد توفير الحماية اللازمة لمواطنيها، بينما تحرم الآخرين هذه الحماية. غير أنه يستحيل على إسرائيل أن تنام آمنة قريرة العين، طالما واصلت حرمان جيرانها الفلسطينيين هذا الأمن والطمأنينة. فالأمن واحد لا ينفصم ولا يجوز لطرف التمتع به دون الآخر. وهذا هو جوهر معضلة النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني. والواضح أن إسرائيل لا تكترث كثيراً للدمار العالمي الذي لحق بصورتها. بل ربما لا تأبه كثيراً للدمار الذي ألحقته بشبابها جراء قهرها المستمر لجيرانها الفلسطينيين. ومن الطبيعي أن تستقطب إسرائيل كراهية عامة لها في أوساط شعوب العالم العربي الإسلامي. وكان سلام فياض رئيس وزراء حكومة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، قد ناشد الفرنسيين أثناء زيارة له إلى باريس في الأسبوع الماضي، التدخل الفوري لوضع حد لتوسع المستوطنات الفلسطينية. وقال خلال مناشدته تلك: إن توسع المستوطنات يقتل أي فرصة للتوصل إلى حل الدولتين المتجاورتين للنزاع. وفي تصريح صحفي له هناك قال: "فلم يعد في وسعنا الانتظار أكثر مما فعلنا. وعلى المجتمع الدولي أن يتدخل لإنقاذ عملية السلام". وأنحى فياض باللائمة على السياسيين الإسرائيليين بسبب عدم ذكر أي منهم لخطورة التوسع الاستيطاني، الذي تواصله بلادهم على عملية السلام، على رغم انهماكهم جميعاً في الاستعداد للانتخابات العامة المرتقبة في شهر فبراير المقبل. في حديث له إلى شبكة "سي. إن. إن" الأسبوع الماضي، ذكر الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، أنه تلقى وعداً شخصياً من الرئيس المنتخب باراك أوباما بالإسراع في التصدي للنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني، عقب توليه مهامه الرئاسية مباشرة في شهر يناير المقبل. ولا شك أن العالم بأسره يأمل أن يتحلى أوباما بالشجاعة الكافية للوفاء بما وعد.