لا جديد يأتي به تقرير المجلس القومي للاستخبارات الأميركية عندما يتوقع تراجع نفوذ الولايات المتحدة في العالم، لأن هذا التراجع بدأ بالفعل في السنوات الأخيرة. لكن الجديد هو توقع التقرير أن يستمر هذا التراجع حتى عام 2025، ويقترن بصعود قوى دولية أخرى إلى قمة النظام العالمي ليصير نظاماً متعدد الأقطاب. في هذا التوقع المستقبلي مغامرة غير مأمونة، لأنه يفترض حتمية استمرار التراجع في النفوذ الأميركي. وهذا تقدير يصعب قبوله على علاته. فكأن التقرير أصاب فقط عندما عالج تراجع النفوذ الأميركي في الوقت الراهن، بينما جانَبَه الصواب حين مدَّ هذا التراجع على استقامته، مغفلاً متغيرات محتملة قد توقفه خلال سنوات قليلة إذا نجحت إدارة الرئيس المنتخب باراك أوباما في معالجة الأخطاء الكبرى التي ارتكبتها إدارتا جورج بوش. وليست هذه هي المرة الأولى التي يخفق فيها معدو تقرير المجلس القومي للاستخبارات الأميركية في توقع اتجاهات المستقبل. فتقرير عام 2004 توقع أن تحافظ الولايات المتحدة على هيمنتها الدولية حتى عام 2020. والمفارقة أنه في الوقت الذي صدر ذلك التقرير كان النفوذ الأميركي قد بدأ في التراجع بالفعل. ويتناول التقرير الجديد هذا التراجع متأخراً، بعد أن فشل في ملاحظة إرهاصاته حين صدر عدده السابق قبل أربع سنوات. ولذلك ينبغي التزام الحذر إزاء التقرير الجديد، وعنوانه "الاتجاهات العالمية في عام 2025: العالم المتغير"، والذي نشرت صحيفة "واشنطن تايمز" ملامحه الأساسية يوم الخميس الماضي. والحذر ضروري في قراءة هذا التقرير، فهو ينتمي إلى نوع من التقارير يُطلق عليها "وثائق تقديرية"، لذلك فإنه لا يعتبر استشرافاً للمستقبل بالمعنى المنهجي المعروف في الدراسات المستقبلية، ولا يقدم بالتالي سيناريوهات محددة وإنما تقديرات واتجاهات عامة لا تخلو من الانطباع. ومن أهم ما يعتمد عليه معدوه تقارير أولية يتلقونها من سفارات الولايات المتحدة ومندوبي وكالة الاستخبارات المركزية في بعض البلاد، واستنتاجات أجهزة أمنية أخرى أميركية وغيرها. وتقرير هذا طابعه لا يصح أن يؤخذ كدراسة علمية مستقبلية تنطوي على صدقية كبيرة. كما أن لهذا التقرير وظيفة سياسية ترتبط بالجهة التي تصدره. فمن وظائف أجهزة الاستخبارات تنبيه صانعي القرار في بلادها إلى أخطار معينة وتحليل اتجاهات التطور المحتملة. وقد يستدعي ذلك التركيز على اتجاهات دون غيرها، أو أكثر من اتجاهات أخرى، وربما إضفاء بعض المبالغة على اتجاه أو آخر. ويعني ذلك أننا لسنا إزاء تقرير استراتيجي يتسم بشيء معقول من الموضوعية ويتوخى المقدار الممكن من الحياد، وإنما تقرير موجه سياسياً ومحمَّل بالتالي بتوجهات محددة. ولأنه تقرير وظيفي أكثر منه علمي، فمن الجائز تقديم موعد الإفصاح عنه ما دامت المصلحة السياسية تقتضي ذلك. وهذا ما حدث فعلاً، إذ حرص رئيس المجلس القومي للاستخبارات توماس فينجر على إعلان ملامح التقرير الرئيسية خلال المرحلة الانتقالية لإدارة الرئيس المنتخب باراك أوباما لكي يتيح الفرصة لفريقه الذي يستعد لتسلم السلطة للاستفادة منه. غير أن السؤال المحوري، هو عن مدى فائدة تقرير أُعدت مادته الأساسية وفق معطيات سابقة على التغيير المتوقع في الولايات المتحدة، والذي قد يبدل بعض هذه المعطيات على نحو يمكن أن يجعل تقديرات رئيسية في هذا التقرير في غير موضعها. وينطبق ذلك على أهم هذه التقديرات على الإطلاق، وهو تراجع نفوذ الولايات المتحدة في العالم خلال العقدين المقبلين على نحو يدفع معدي التقرير إلي توقع قيام نظام عالمي متعدد الأقطاب، رغم اقتناعهم بأن الولايات المتحدة ستظل الدولة الأكثر قوة في هذا النظام. والجدير بالانتباه، في هذا التقدير لموقع الولايات المتحدة في النظام العالمي، أنه تقدير راهن أكثر منه مستقبلي. فالتراجع في النفوذ الأميركي حدث فعلاً في السنوات الأخيرة، بسبب الأخطاء الكبيرة التي ارتكبتها إدارتا بوش سواء في الحرب على الإرهاب أو في غزو العراق أو في تحميل واشنطن التزامات يصعب الوفاء بها؛ كنشر الديموقراطية في الشرق الأوسط خصوصاً. لقد حصدت الولايات المتحدة ثماراً مرة لسياسات "المحافظين الجدد"، على نحو أضعف قدرتها على الردع في بعض الأزمات الساخنة، فأصبح بإمكان روسيا مثلاً أن تتحدى سياسة "الدرع الصاروخية" في شرق أوروبا، وأن تفرض نفوذها في منطقة القوقاز. وصار سهلاً لبعض حكام أميركا اللاتينية أن يحولوا تلك المنطقة من "حديقة خلفية" للولايات المتحدة إلى مصدر إزعاج لها. وحتى إيران التي كان الفزع قد أصابها إبان غزو العراق، باتت قادرة على فرض شروطها في الأزمة الناجمة عن برنامجها النووي. وهكذا لم يأت التقرير بكشف جديد عندما تناول تراجع النفوذ الأميركي في العالم. فقد رصد ما حدث فعلياً في فترة إعداده التي بدأت قبل حوالي 18 شهراً حين كانت علامات هذا التراجع واضحة للعيان. غير أن ما لم يحسب التقرير حسابه، هو إمكان مراجعة العوامل التي أدت إليه وما يمكن أن يترتب على ذلك من وقفه وبالتالي استعادة النفوذ العالمي الذي خسرته الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة. فإذا كان واضعو التقرير يعتقدون أن تراجع نفوذ الولايات المتحدة لم يقترن بافتقادها مقومات القوة غير المسبوقة في تاريخ العالم، وهم مصيبون في ذلك، فهذا يعني إمكان تدارك هذا التراجع في حالة تغيير السياسات التي أنتجت أخطاء أدت إليه. فالتراجع في نفوذ أي دولة يكون نهائياً، أي غير قابل للتدارك، حين يقترن بافتقاد هذه الدولة مقومات قوتها. لكن في حالة الانفصال النسبي بين النفوذ والقوة، أي حين لا تستطع الدولة استخدام قوتها لتحقيق نفوذ مساو لها ودون أن تفقد مقومات هذه القوة نفسها، يظل استرجاع النفوذ ممكناً. وستكون هذه هي حالة الولايات المتحدة إذا نجح أوباما في معالجة الأخطاء التي أضعفت نفوذها. وعندئذ، يصبح تقدير التقرير بشأن استمرار تراجع النفوذ الأميركي غير ذي معنى. وهذا تقدير لا محل له في كل الأحوال، وحتى إذا لم تستعد الولايات المتحدة النفوذ الذي يفترض أن تتمتع به القوة الأعظم في نظام أحادي القطبية. وقد ناقض التقرير نفسه عندما أكد أن التراجع الذي يتوقع استمراره هو في نفوذ الولايات المتحدة وليس في مقومات قوتها الفعلية، ثم توقع تحولاً في اتجاه متعدد الأقطاب بدرجة أو بأخرى. فلا سبيل إلى مثل هذا التحول إلا حين تضعف القوة الأميركية وتستحوذ دول أخرى (الصين والهند والبرازيل وفقاً للتقرير) على مصادر للقوة تساوي ما يبقى للولايات المتحدة. وإذا كان هذا الاحتمال غير وارد، حتى عام 2025 وفقًا للتقرير نفسه، فكذلك ينبغي أن يكون الأمر بالنسبة لاحتمال التحول نحو عالم متعدد الأقطاب. فلا مجال لهذا التحول إلا إذا فقدت الولايات المتحدة مقومات قوتها التي تتيح لها التفوق على القوى الدولية الكبرى الأخرى حتى في حالة تراجع النفوذ الأميركي. خذ مثلاً التفوق المعرفي العلمي التكنولوجي الابتكاري الذي يعتبر المصدر الرئيسي لقوة الدولة ووزنها في ميزان القوى العالمي في عصرنا الراهن. فهذا التفوق هو مصدر القوة الاقتصادية والعسكرية، ومن ثم السياسية. وليس هناك أي أساس معقول لتوقع امتلاك دول مثل الصين والهند قدرات كبيرة في هذا المجال خلال أقل من عقدين، وهي التي مازالت في مرحلة ابتدائية تعتمد فيها على التكنولوجيا الأميركية أكثر مما تستطيع اختراعها. والحال أن الولايات المتحدة تستطيع المحافظة على تفوقها المنتج لقوتها غير المسبوقة في التاريخ بمقدار ما تظل أكثر قدرة على إنتاج المعرفة والعلم والتكنولوجيا من القوى الدولية الأخرى المرشحة لأن تنافسها على النفوذ دون أن تتساوى معها أو تشاركها قمة النظام العالمي. كما أن قدرة القوى الدولية الصاعدة على امتلاك مساحات أكثر من النفوذ العالمي، تتوقف على عجز الولايات المتحدة عن توظيف قوتها بالشكل الأمثل، وليس فقط على مهارة هذه القوى أو براعتها في إدارة علاقاتها الدولية. وهذا ما حدث خلال السنوات الأخيرة وأعطى انطباعاً بأن النفوذ الأميركي في طريقه للانحسار، وأن هذا طريق واحد بلا عودة. لكن هذا الانطباع سيكون موضع مراجعة جوهرية خلال السنوات القليلة المقبلة إذا حقق أوباما ما التزم به من تغيير في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وأدى ذلك إلى استعادتها النفوذ الذي فقدته في السنوات الأخيرة.