ما الذي يفسر ما تعرفه المجتمعات العربية من استهتار بالحياة القانونية على مستوى الدولة والمجتمع معاً، وارتدادها نحو التضامنات البدائية والاستسلام لغريزة الاقتتال والعنف؟ سؤال فاجأني به أحد مسؤولي منظمات حقوق الإنسان الدولية، قبل أيام في باريس. والمراقب المحايد لا يمكنه أن ينكر أن أكثر ما يسم أوضاع المجتمعات العربية الراهنة هو غياب احترام القانون وضعف الحوافز الأخلاقية، إلى درجة يبدو كما لو أن القوة فقط هي التي تقوم بترتيب العلاقات وأشكال الانتظام الفكرية والسياسية والاجتماعية في هذه المجتمعات. ولا يكاد سلوك أو جهد يقوم على أصول أو قواعد مرعية واضحة، وكل ما نقوم به، من التربية الفردية إلى الحرب، يجري خارج أي مثال أو أطر واضحة، فقهية وعلمية وسياسية، كما لو أن كل التقاليد ومخزونات التجارب الانسانية الطويلة، قد ضاعت تماماً، ولم تعد هناك أية مرجعية واضحة يستند إليها الفرد أو الجماعة أو الدولة في أفعالهم أو ترتيب شؤونهم وحقول ممارستهم. لا يمكن لمثل هذا الوضع إلا أن يثير تساؤلات عديدة، خاصة عندما يتذكر المرء ما حفلت به الحضارة العربية من تراث فقهي وتعلق بالتقاليد واحترام شديد للشرعية والأصول المرعية. هناك في نظري أربع تجارب، أو بالأحرى محن، تفسر هذا الانهيار في معنى القانون لدى المجتمعات العربية. الأولى هي المحنة الاستعمارية. فرغم تحديثها للدولة، إدارتها ومؤسساتها القانونية والقضائية، فإنها قوضت معنى القانون باستخدامها لتطبيقه في حقل العلاقات المدنية كغطاء لممارسة عامة غير شرعية وغير قانونية، وبقدر ما أدخلت من مفاهيم ومعايير وقيم مرتبطة بالحرية والعدالة والمساواة لتبرير تدخلها في الشؤون العربية، فقد شكّل حكمُها نفسُه نفياً عملياً للعنصر الرئيسي الذي تصدر عنه هذه القيم والمعايير القانونية، أي الإرادة الوطنية والسيادة السياسية. وبينما تذرعت بتعليم شعوبنا القانون، فإن وجوده لم يقم إلا على أساس القوة والقهر والإكراه. فقد أعطت السلطة الاستعمارية أول وأهم مثال على اغتصاب إرادة المجتمعات والجماعات والأفراد وحكمهم خارج القانون وضد إرادتهم أو رغماً عنهم. وهل هناك مثال لتلاعب الاحتلال والاستعمار بمفهوم القانون والشرعية أوضح من مثال احتلال الولايات المتحدة الأميركية للعراق عام 2003؟ وكيف يمكن، بعد تجربة معسكرات جوانتانامو، بعث الثقة بالقانون أو الإيمان بشرعة دولية أو بقيم تضامن إنسانية ما فوق قومية؟ التجربة الثانية التي ساهمت في تدمير تقاليد الشرعية والأصول القانونية، وعلّمت الناس الإيمان بتفوق مبدأ القوة على الحق، ونجاعة خرق القانون وسهولته، جاء على يد الاستيطان اليهودي في فلسطين. فقد اتبع هذا الاستيطان التقليد الاستعماري ذاته، لكن على نحو كاريكاتوري ضاعف من الهوة بين الخطاب القانوني والإنساني المعلن وبين الممارسة العملية القائمة على التوسع من دون حدود في استخدام القوة والمراهنة عليها لضمان وجود الطعم الاستيطاني اليهودي في فلسطين واستمراره. وباستخدامها خرق القانون، والاعتداء على الحريات الفردية، وانتزاع الملكية، والاحتيال على القوانين الدولية، والابتزاز بصورة الضحية لتحقيق مصالح استعمارية آنية وبعيدة المدى معاً، وبإهدارها حقوق الناس ومصالحهم... شكّل قيام الدولة اليهودية الاستيطانية ضربة قاصمة لمفهوم الحق والقانون والعدالة والإنسانية، وأحدث شرخاً عميقاً في الضمير الإنساني والوعي القانوني عند أي عربي عاش التجربة الاستيطانية أو قرأ عنها. فهل يمكن لحرب التطهير العرقي التي حصلت في فلسطين الحديثة أن تبقي أي احترام لقيم إنسانية مشتركة أو تترك معنى لفكرة حكم القانون وأسبقيته على القوة، مهما كان محدوداً؟ وكيف لا يلتف الناس حول ميليشياتهم الذاتية ولا يراهنون على القوة وينتجونها خارج القانون وضده، عندما يتعرضون خلال عقود طويلة للقصف العشوائي والاعتداءات المتواصلة دون أن يحميهم أي قانون أو ترد عنهم الأذى أية دولة أو منظمة دولية؟ أما التجربة الثالثة التي تعلّم منها العرب فراغ القانون من أي معنى ومضمون فهو حكم النظم العربية التسلطية الذي يقوم منذ عقود على غير قانون، أي على "التغلب" كما يقول فقهاء السياسة القدماء، وإرادة التسلط والاستبداد بالرأي والعسف اليومي. فليس هناك مثال لحكم القوة والحكم بالقوة ضد القانون، واغتصاب إرادة الشعب، واعتقاداته العميقة، أوضح من نموذج النظم السياسية العربية. فهي، إلا ما ندر، تنفي الحقوق الطبيعية، وتتصرف بوصفها وصية أبدية على شعوبها، وتجعل من الأفراد أدوات مسيرة من قبل السلطة، لا فائدة لها في استخدام العقل ولا في التفكير بمستقبل مجتمعاتهم. فالقانون الوحيد السائد في أغلب الدول العربية هو خرق القانون، والتجريد العملي والرسمي من الحقوق المدنية والسياسية، والإذعان لإرادة السلطة وأحكامها. القانون هو إرادة القائد وما يصدر عنه من قول أو عمل أو سلوك؛ فهو صانع القانون ومصدر التشريعات. أما التجربة الرابعة التي قضت على ما يمكن أن يكون قد تبقى من معنى الحق والقانون، فهي الأصولية الدينية التي تلغي الدولة من الذهن وتتصرف وتربي الأفراد على العيش في نموذج من العلاقات الاجتماعية ما قبل "الدولوي"، يضع الجماعة وتقاليدها وهويتها وعصبيتها قبل المؤسسات القانونية وخارجها. وهذا هو في الواقع المعنى الوحيد لقانون الشريعة الدينية الذي يسعى الأصوليون إلى نشر فكرته وتطبيقه إذا أمكن بدل القانون السياسي في إطار الدولة. مما يعني الانتقال من مناهضة الدولة القانونية، كمفهوم وكفكرة ناظمة للحقيقة الاجتماعية، إلى إلغاء الدولة من الوجود وإحلال منطق العصبية والجماعة الدينية محلها. وهكذا، في غياب القانون، وانعدام الإيمان به، والشك بجدواه، أو غياب أي رغبة للحديث عنه، لا يبقى مهيمناً في المجتمعات إلا القوة. وبالقوة وحدها يمكن لمن يسيطر على مقاليد الأمر من النخب السائدة أن يحتفظ بسيطرته، داخل المجتمع والدولة معاً. وعبر عنف القوة المجردة، يستطيع الطرف المهيمن أن يحل خلافاته مع من يخالفه في الرأي أو الموقع أو السلطة. فقانون القوة هو العنف والقهر والإكراه. وليس للعرب اليوم حياة جمعية سوى حياة العنف والإكراه، لذلك ليس بمقدورهم أن يتصوروا حياة مدنية قائمة على تبادل الاحترام والثقة والمصالح والمعاني والرموز، أو على التفاهم والتواصل عبر قوانين وأصول إجرائية منظمة وثابتة. وهذا هو أحد أركان الهمجية التي تعرفها مجتمعاتنا، وتتجلى عبر الحروب الأهلية والاقتتال الداخلي واستسهال سفك الدماء والقتل والسجن والاعتقال، والسكوت على انتهاك الحقوق والمحرمات، وعبادة القوة والتسليم للأقوى. فلا حياة مدنية هناك، ولا حضارة. فالمدنية تعني قبل أي شيء آخر تطور الحياة الأخلاقية والقانونية التي تؤسس لتنظيم العلاقات بين الأفراد على مبادئ أخلاقية ثابتة ومعروفة، وتسمح بحل النزاعات والخلافات في النظر والمصالح معاً بوسائل سلمية، أي عن طريق الحوار والتفاهم والتسويات القائمة على تنازلات، أو بالأحرى مساهمات، مقبولة من جميع الأطراف.