سألت مؤخراً المفكر المغربي البارز محمد عابد الجابري عن حقيقة ما يُشاع عن صلاته الفكرية بمؤسس حزب "البعث" العربي ميشال عفلق، الذي يقال إنه التقى به كثيراً في آخر سنوات عمره، وهو يومئذ منفياً بإرادته في باريس. قال لي الجابري إن اللقاء كان عابراً والصلة بسيطة، لكنه أكد أن عفلق قال له"إن ما تكتب اليوم في نقد العقل العربي وإعادة بناء المشروع القومي هو ما كنت أود أن أكتبه بالضبط، وأنا أوافق عليه بالكامل".وحسب شهادة الناشر اللبناني الراحل بشير داعوق، الذي كان شديد القرب فكرياً وإنسانياً من عفلق، فإن الأخير أكد له ولغيره أن الأيديولوجيا القومية تحتاج إلى مراجعة راديكالية، والأمل معقود على مفكري المغرب العربي، وفي مقدمتهم الجابري. كان الجابري قد بدا في تلك الفترة (بداية الثمانينيات) يطرح فكرة "الكتلة التاريخية " في مقابل مفهوم "الطليعة " الأثير لدى القوميين .وتعني هذه العبارة المستمدة من القاموس الماركسي الوصول إلى تكتل واسع من قوى الأمة يقود عملية التغيير الديمقراطي، مما يقتضي خطوتين متلازمتين :استنبات قيم العقلنة والنقد في الخطاب الفكري والسياسي، والمصالحة بين التيارات الفاعلة في الأمة. ومن الواضح أن الفكر القومي بتأثير واضح من كتابات الجابري بدأ الشروع في هذه المراجعة النقدية، فظهرت فيه نزعة القطيعة مع الأيديولوجيا الشعبوية التي طبعت المشروع العروبي، كما أنه استعاد نفحته التحديثية بنفس ليبرالي غير مسبوق من خلال التبشير بقيم التعددية الديمقراطية، في الوقت الذي تبلور شكل جديد من العمل القومي تمثل في مبادرة "المؤتمر القومي العربي"، الذي أريد تجسيداً لفكرة الكتلة التاريخية الجامعة بين شتى تيارات الأمة (انعقد المؤتمر الأول في تونس عام 1990 بمبادرة من مركز دراسات الوحدة العربية). إلا إن الإشكالين اللذين طرحا على الفكر القومي الجديد هما: أولاً:كيف يمكن الجمع بين خيار الإصلاح السياسي الداخلي ضمن ديناميكية الولاء للدولة الوطنية القائمة وخيار تجاوز هذه الدولة في عمل استراتيجي للاندماج القومي، الذي هو شرط تلاؤم الدولة والأمة؟ ثانياً:ما هو المضمون المعياري للدعوة القومية إذا تحولت إلى مجرد مثال وحدوي مشترك بين شتى التيارات الفاعلة في الأمة بغض النظر عن تلويناتها الأيديولوجية؟ ومصدر الإشكال الأول، هو أن الفكر القومي يميل بالفعل إلى تجاوز عقدة "الدولة القطرية" التي كان يرى فيها كياناً فاقد الشرعية، بل إن بعض أهم الكتاب السياسيين العرب مثل محمد جابر الأنصاري وتركي الحمد وغسان سلامة بينوا في دراساتهم أن للدولة الوطنية ارثها التاريخي باعتبار أن واقع التجزئة ليس في كامله حالة استعمارية جديدة ، ومن هنا الاتجاه إلى استبدال النموذج البروسي للوحدة بالنموذج الأوروبي الجديد بطرح خيار الفيدرالية المرنة على أساس التكامل الاقتصادي والاستراتيجي. وفق هذا المنظور يغدو من الممكن الرهان على الانفتاح الديمقراطي المحلي لدفع المشروع الإقليمي، انطلاقاً من مسلمة التفاف الشعوب العربية حول الهدف الوحدوي. فهل تكون إذن دمقرطة البلدان العربية المحطة التمهيدية اللازمة للشروع في المسار الاتحادي، بعد أن فشل الرهان على ثنائية "الدولة القاعدة" و"الزعيم الملهم" في فرض الوحدة بالقوة والكاريزما الشخصية؟ إن الإشكال يتعقد عندما ندرك أن هذه الدولة الوطنية تحتاج إلى جهد تحصين وتوطيد في مواجهة عوامل التفكك الداخلي الكثيرة (الحالة الصومالية العراقية)، بقدر ما تحتاج إلى خلخلة واستهداف بنيتها التسلطية القمعية لتهيئة الأرضية الملائمة للتحول الديمقراطي. ومصدر الإشكال الثاني هو أن الفكر القومي كما بينا سابقاً أراد منذ بداية تشكله بناء مضامين عقدية وأيديولوجية خاصة به في فترة الصراع الأيديولوجي الحاد، الذي عرفته الساحة العربية في الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم. ولقد تأرجح في بناء هذه المضامين بين اعتبار الإسلام المخزون الرمزي لهوية الأمة (ميشل عفلق في أعماله الأولى وعبد الناصر في فلسفة الثورة) أو تحميل العروبة كرابطة انتماء هذا المخزون، على غرار الأيديولوجيات القومية العلمانية الأوروبية. وإذا كان الإسلاميون عارضوا هذا التوظيف الأيديولوجي للثقافة الإسلامية بصفته منبتاً عن الأبعاد العقدية الدينية، فإن المنحى الآخر لم يتجاوز رومانسية الانتماء التي عكستها أشكال التعبير الأدبي، وفي مقدمتها الشعر الذي كان السجل الخطابي المفضل عند القوميين العرب. فهل تحول المثال القومي من إيديولوجيا متكاملة وعقيدة نظرية إلى إطار مشترك للانتماء يجمع كل من يتبنى الخيار الاندماجي العربي؟ ليس من همنا الإجابة على هذا السؤال، بل سنكتفي بالختم بنتيجتين أساسيتين من استعراضنا لإشكالات الفكر القومي الراهنة: أولًا:إذا كان من الصحيح أن الإيديولوجيات القومية المتطرفة في أوروبا هي المسؤولة عن الحروب والصراعات الدامية التي عرفتها القارة القديمة في القرنين الأخيرين (آخرها مصائب القومية الصربية)، فإننا ننسى أن الفكرة القومية، هي التي بلورت شكل النظام الديمقراطي من خلال مفهوم الدولة المجسدة للكيان الجماعي للأمة (في مقابل شرعية الحق الطبيعي التي يعبر فيها الحاكم المطلق عن هوية المجموعة).ولذا فإن تجربة الأنظمة القومية القمعية في العالم العربي يجب أن لا تتخذ دليلاً على إقصائية وتسلطية النظرة القومية في المطلق، بل الصحيح أن هذا المثال لو ربط بسياقه التنويري التحديثي، لأصبح المدخل المطلوب للإصلاح السياسي المنشود راهناً. ثانياً: مهما كانت الدعوة القومية تعبيراً عن نزعة انتماء خصوصي، فإنها من حيث خلفيتها الفكرية الأصلية نزعة إنسانية منفتحة، ذلك أن مفهوم الأمة عوض في العصور الحديثة الهويات الطائفية والعرقية، كما أن الدولة القومية الحديثة هي إحدى دوائر الكونية وأشكال التعبير العملي عنها، ولذا اعتبرها الفيلسوف الألماني التجسيد الموضوعي العيني للعقل في التاريخ. ولا شك أن الفكرة القومية العربية ستجني مكاسب التحرر من شوائب الانكفائية الخصوصية بالنظر للهوية كمشروع تاريخي مستمر وليس مجرد تركة ضائعة من الماضي، وكمشروع تحديثي للأمة وليس مجرد دفاع عن صورتها وأمجادها.