أفراد النخبة المثقفة على مر الأزمنة العربية يتعرضون لمحن عديدة، هم أكثر الناس غربةً في مجتمعاتهم، فهم من جانب يشعرون بتميزهم الفكري عن البقية، ومن جانب آخر هم في أشد الحاجة إلى رموز المجتمع وأهل الصفوة من أهل النفوذ؛ إما للحماية البدنية أو لمنفعة مادية، وفي بعض الأوقات تشعر تلك النُخب الفكرية بأن عليها دوراً للنهوض بتفكير أمتها، فتراها تخوض في الفلسفة وعِلم الكلام أو المنطق وعقلنة التفكير السائد وترشيد المعارف، وفي الغالب لا ينجح صاحب هذا المقصد أو ذاك، فطالب الحماية والمال يتعرض من حينٍ لآخر إلى المهانة والاحتقار إلى حد الضرب بالدواة غضباً من موقف صغير، فـ"سيف الدولة الحمداني" فعل بشاعره الكبير المتنبي هكذا، ولم يكن في مقدور الأخير إلا أن يقول: إن كان سرَّكم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألمُ وعندما هرب المتنبي إلى كافور في مصر حصد المهانة إضافةً إلى السجن. وابن رشد -مثلاً- لم يكن له حظٌ كبير في منظومة التفكير العربي والإسلامي، ويقول الدكتور أبو زيد عن ذلك: "إن الحديث عن ابن رشد هو الحديث عن العقل المهاجر، العقل الذي طردته الثقافة الإسلامية، وتلقفته الثقافة الأوروبية الناهضة". ويشير الأستاذ وليد نويهض في مقاله عن الفيلسوف الإسلامي ابن طفيل وكتلخيص لفكره الذي بثه في كتابه "حي بن يقظان": "إن هذا النابغة وصل إلى قناعة بأن الجهود المبذولة للتوفيق بين التفكير العام والحِكمة غير مجدية على الإطلاق، وإن محاولات النُخبة الفكرية في منطقتنا لإرشاد العامة وأنصاف المثقفين في هذه المنطقة من العالم لا سبيل لها ومن المستحيلات على الإطلاق، فكل حزب بما لديهم فرحون، والناس على درجات من تطور المعرفة، ويجب ترك الأمور على حالتها لأن كل محاولة للإصلاح سيكون مصيرها الفشل، فالكثير منهم عندما تتصفح أعماله من وقت انتباهه إلى حين رجوعه إلى الكرى لا تجد منها شيئاً إلا أموراً محسوسة.. مالاً يجمعه، أو لذة ينالها، أو شهوة يقضيها، أو غيظاً يتشفى به، أو جاهاً يحرزه أو يدافع عن رقبته، وهذه النصيحة لم يأخذ بها الحفيد ابن رشد فأقحم نفسه في الشائك والمستحيل العربي.. ففشل"! ومنذ القرن الثامن عشر الميلادي وحتى الآن، تكررت مشاهد الأقدمين أصحاب النقائض، وزادت بالتالي حيرة أهل القلم والفكر، فعظائم الأمور التي داهمت شعوبنا كانت أكبر مما يمكن أن يعيد للذاكرة نصائح ابن طفيل والمعري بألا فائدة تُرجى من التنوير وبذل الجهد العقلي في قلب صحراء فكرية لا تُنبت نبوغاً ولا رسوخاً في الإبداع وتخطي المألوف؛ حاول البعض ففشل وهاجر.. هذا أبو ماضي يقول وهو يغادر لبنان: وطن أردناه على حب العلى فأبى سوى أن يستكين إلى الشقا كالعبد يخشى بعدما أفنى الصبى يلهو به سـاداته أن يُعتقـا أو كلما جاء الزمان بمصلح في أهله، قـالوا: طغى وتزندقا هذا جزاء ذوي النهى في أمةٍ أخـذ الجمود على بنيها موثقا وطن يضيق الحرُ ذرعاً عنده وتـراه بالأحـرار ذرعـاً أضيقا ما أن رأيت به أديباً موسراً فيما رأيت، ولا جهـولاً مملِقـاً من فضل البقاء وعدم الهجرة والمحاولة لعل وعسى، نراه أخيراً يتقطع غيظاً مما يراه.. ها هو الشابي يقول عن تونس في أيامه: كلما قام في البلاد خطيب موقظ شعبه يريدُ صلاحـه أخمدوا صوته الإلهي بالعسف أماتوا صداحه ونواحـه ألبسوا روحه قميص اضطهادٍ فاتكٍ شائك يرد جمـاحه هكذا المصلحون في كل صوبٍ رشقات الردى إليهم مُتاحه البعض الآخر تحول في لحظة يأس إلى لسان لقائد عسكري ديكتاتوري، أو انخرط في أحزاب أفكارها مستمدة من الماركسية أو مجموعات عدمية أو مخربة، واختار قسم من المثقفين العزلة القاتلة والإحباط المميت، أما ثُلة غير قليلة ممن تملك حاسة استشعار حساسة فإنها فاقت حاسة المتنبي التكسبية -ولا نقول بنبوغ شاعر العصور وأسبقية أفكاره الشعرية- إنهم يكتبون في عشرات الصحف أعمدة يومية لا تقول شيئاً، ويحللون أزمات المجتمع بكل أشكالها تلفزيونياً، إلى جانب كتب عن الطبخ والسمنة والعشاق! ما الحل والحال كما عرضنا؟ أغلب الظن أن الخيارات جدُّ ضيقة أمام المثقفين وأممهم تعيش أزمات حياتية متعددة بدءاً من الحصول على رغيف الخبز وحتى السباحة المميتة للشمال الأوروبي هرباً من سوء الأوضاع المحلية، تضاف إلى هذا حالة من التداعي على المال بشتى السبل والوسائل، واعترافٌ شبه جماعي بعدم القدرة على مقارعة الأمم الأخرى ومخططاتها المختلفة، وتُزاد على ذلك حالة التوجس الدائمة بين تلك النُخب وبين المخالفين لهم، فهم حاقدون عندما يرغبون بتعديل مسار خطط التنمية، ومُثيرون للشغب والعقد الاجتماعي عندما يُنادون بتقليل الفروق بين الطبقات ومراعاة أعباء من تقع عليهم تبعات التضخم، ولهم صلات مع الخارج مشبوهة كلما نادوا بالتعلم من تجارب الحضارات والأمم الأخرى، وخارجون عن التقاليد والأعراف، إن هم تعرضوا لتلك الخطوط الحمراء التي لا علاقة لها بالأديان والقدسيات، بل إن الكتب السماوية لم تخش المكاشفة فيها وعنها؛ الشك كبير في وطنيتهم متى ما كتبوا ما يخالف ما تعارف عليه الناس من قبل وما كبروا عليه سماعاً وقراءةً وقولاً! هم في هذه الحالة العربية يشبهون ما قاله أبو فراس الحمداني فيمن اتسع بلاطه لكل الناس، ولكن وجود الشاعر الأمير الفارس هو الذي تضيق به المجالس والدواوين: زمـاني كـله غضب وعتب وأنت عليّ والأيــام إلْبُ وعيش العالمين لديك سـهل وعيشي وحـده بفناك صعب إلى كم ذا العتاب، وليس جرمٌ وكم ذا الاعتذار وليس ذنب؟! وكل عام والقراء الكرام بخير.