التاريخ وعاء الهوية البشرية، هوية المكان وتقلب الأزمان بين أيدي البشر، والهوية البشرية متعددة بتعدد التجمعات والمجتمعات والأمم وما تبتكر وتصنع وتنتج، وتتبلور كل منها بتفاعلها مع الأخرى وتفاعلها يأتي أخذاً وعطاءً في علاقة يتقاذفها الصراع والتعاون. وللجغرافيا المختلفة دور أساسي في هذه العملية لأنها قاعدة التفاعل والعيش بين البشر، فهي تتحدث بآثاره عما كان، أما الزمان فيسجل تلك الأحداث والتحولات والإنجازات البشرية ويرسم، بصورة أو بأخرى، تطويع البشر للبيئة الذي كان في مراحله الأولى متعلقاً بالصراع على البقاء، ومازال هذا الهدف، وإنْ اِتخذ شكلًا أقرب إلى البحث عن العيش اليسير. كما أن التاريخ يحمل الكثير من الآثار والبقايا المادية لقبائلَ وتجمعاتٍ وقرًى ومدائنَ وحضاراتٍ ودولٍ سادت ثم بادت، وفيه أيضاً تحولات الإنسانية باعتبارها مخلوقة جُعلت لها خواص ذاتية لهوياتها من أعراق وقوميات تملأ هذه الأرض، وأصبح التاريخ اليوم كتاباً لا تتوقف صفحاته، بل هي في تزايد باستمرار الحياة على وجه البسيطة، فالإنسان ليس ثابتاً، بل متغيراً يبني ويهدم. وفي صفحات التاريخ الكثير من الدماء والدموع والسلام والفرح، وفيه القوة والجبروت والقهر، وفيه البطولة والعدالة والحرية. ويمكن رصد التاريخ في محاور مرت ومازالت كأنها ضالة البشرية، ومن هذه المحاور الصراع على القوة المادية والأمن، وهو سعي دؤوب من الأفراد والتجمعات إلى الدول والمنظمات يقابله محور الحرية والعدالة، والإنسان مهما حقق منها يقول نفسي نفسي وهل من مزيد. وما تمتاز به القوة المادية والأمن والحرية والعدالة هو أنها لا تُدرَك كاملة، وربما في ذلك يكمن الكثير من سر تقلب الدنيا والحياة. عموماً، فإن البشر، وما يملكون من معرفة وقوة وإرادة وتطلع وتخيل وما يهدفون إليه، هم صناع الأحداث والإنجازات، والزمن بأجياله المتعاقبة يتأثر بهم، فيروي ما طوروا وما أحدثوا أو غيروا، وهكذا يزداد التاريخ تحولاً وتعقيداً، ولكنه يبقى تاريخاً يسهل رصده ومتابعتُه وحفظُه بإيجابياته وسلبياته وتحليلُه في هذ العصر الذي كثُرت فيه أدوات التحليل، فعالم اليوم يتميز بقوته العلمية وأطروحاته الفكرية ومقوماته النفسية والقومية وأهدافه وكل ذلك سيدخل كتاب التاريخ، فما هو معاصر اليوم سيصبح تاريخ الغد، إنه عالم متغير. وفي هذه الصيرورة التاريخية هناك من يكتب مجداً له، وآخر يَشطب ويحذِف حقبة من تاريخه، بينما يقف ثالث على أبواب تاريخه الذي ولى بمجده وقوته وعلومه فأصبح يصرخ في وجه أصحاب المجد والقوة، مسطِّري تاريخ الغد، يحاول أن يطاولهم بذاك التاريخ الذي أصبح حلماً وأحياناً كابوساً إذا ما قورن بالواقع. نحن أمام هذا الفريق الذي يصرخ بمجده وحضارته ويدَّعي الحق في كثير من الأحيان وأصبح أسير التاريخ لا يستطيع منه فكاكاً لأنه لا يستطيع أن يُحدث فَتْحاً أو يوقد منارةَ علم ومعرفة أو يأتي ببرهان، بل كثيراً ما لا يملك شرعية منطقية إلا بالتاريخ، أي لا يستطيع أن يكون قاعدة انطلاق يؤرِّخ لنفسه ويقول ها أنذا بدل كان أبي. وفي هذا الفريق صور كثيرة نعايشها الآن في الذين يرون أنه يمكن إعادة التاريخ، مع أنه مهما كانت لهم من قوة وحضور عقيدي وسياسي فهي قوة تاريخيةُ الفكر متصادمةٌ مع الواقع، وما نجاح بعض أفكارهم إلا بتوشيح خطابهم بمفاهيم العدالة والإصلاح والحديث عن الحقوق المسلوبة، وحجة هؤلاء أن هناك حالة أوجدها التاريخ وشيدت حضارة يمكن استعادتها بالعودة إلى ماضيها، وهي حجة سليمة ومسلم بها، ولكنها تعتبر خاصية تاريخية، وليست مبنية على إعادة التاريخ، فآثار التاريخ تبقى ويتغير الواقع مع وجود خصائص جديدة تاريخية ولغوية ودينية وغيرها، فعظماء الولايات المتحدة والقادة الأكثر فعالية وقوة اليوم لهم خاصية كونهم من أوروبا وهم مسيحون برتستانتيون في الأغلب، وهذه الخاصية لم تستجب لإعادة التاريخ والعرق إلى أصله مع أن للخاصية دوراً مهماً. وفي الإنجازات العلمية صنفت إحدى الجامعات الأميركية الفترة الواقعة بين ستينيات القرن العشرين ومنتصف ثمانينياته بأقوى الإنجازات العلمية الأميركية، ورأت أن الهبوط على القمر يفوق الأهرامات المصرية اختراعاً وإنجازاً وحضارة، ولك أن تتصور أيها القارئ ضخامة ما تحقق فربما استصغرت الكثير من تاريخك. أجل نحن في الشرق كثيراً ما نعتنق أفكاراً تاريخية ونبقى على آثارها ونمجد إنجازاتنا العلمية التاريخية التي ليس لها جسر مع واقعنا، وفي شرقنا أيضاً مذاهب وقوميات وأديان تنبعث من صفحات التاريخ، فلو أمعنا في ما يمور به لوجدنا أن الأمر مرتبط ببعث الماضي من أجداثه، فكل الصراع قائم على فكر ماضوي، تصوروا لو أننا أخذنا نشتم كل من دخلنا معهم في حروب، وبَنَينا سياستَنا على مقتل فلان أو علان، واستعدينا أحفاده الذين لا نعرفهم أصلاً، فهل يُعقل أن تقوم سياسة على حادثة تاريخية؟ وهل بلغ الانغلاق إلى أن يجلد الناس أنفسهم عقاباً على ما فعل أجدادهم الأولون، والراجح أنهم لم يفعلوا، ولا يعاقِبون أنفُسَهم على ما يرتكبون اليوم من فظائع وعلى ما فرطوا فيه من أرض وعرض، همُّهم الوحيد عبادة الأضرحة والركون إلى الجمود في انتظار المهدي المخلِّص بدل أن يستنهضوا الهمم للعمل مثلما تفعل الأمم. ولهذا الفكر الماضوي أمثلة مثيرة للسخرية، فعن جهل التاريخ أن مسؤولًا عربياً تحدث عن العراق بعد سقوط "البعث" ومعاناته من التدخل الإيراني وسوء أوضاعه، فخرج صوت عراقي يصرخ صرخة "حمورابية"، وربما "نبوخذ نصرية"، أنهم لا يريدون من راعي الإبل أن يعلمهم القانون، فَهُم القانون! صحيح أن القانون ولد في العراق قبل الإسلام، لكنه أمر لا يعني شيئاً اليوم، فأهل الإبل هم الذين فتحوا العراق وبَنَوه وجعلوه إمبراطورية، أهل الإبل من صحراء العرب، أجل من تلك الصحراء، وليس عيباً ولا عاراً، ففي الحقائق التاريخية كان بناة الحضارات من أهل الحياة البدائية. وتجدر الإشارة في نفس السياق إلى إيران وتركيا، فالأولى تستصرخ التاريخ بمجدها وحضارتها قبل الإسلام إلى اليوم تعصُّباً للتاريخ الفارسي، أما الثانية فقد أصبحت دولةَ ما بعد الإمبراطورية، تشرئبُّ إلى المستقبل ولا تعود إلى الماضي لتحرك مياهه العكرة ولا تثير أزماتٍ تاريخية مع العرب، وترنو بعقلها إلى كتابة التاريخ لا الوقوف عند قراءته وبعيداً عن الإغراق في تمجيد الماضي. نحن في الشرق مازلنا نجادل باسم التاريخ والإنجازات المادية، هذا هو الشرق الأوسط مهد الأديان والحضارات والانجازات المادية، وها هو تاريخه يتصادم مع واقع اليوم، فمن لا يمشي على الأرض لا يستطيع أن يسبح في الفضاء لأنه يجهل أبسط الأشياء، وبروز القوميات والأطروحات التاريخية والتغني بالتاريخ يتجاوز الحدود والواقع ويؤكد خلُوَّ معظم دول الشرق الأوسط من مفهوم الدولة، ونبقى ضحايا ومقيدين بأغلال التاريخ وحَكَواتييه. اِبتعد عن عَبدَة التاريخ إذا كنت معي فأنا لا أرغب في العيش مع عبدة التاريخ.