"إياكم وخضراء الدِّمَن"، حديث نبوي، يفسره قاموس "لسان العرب": "شبَّه المرأة الحسناء في المنبت السوء بما ينبت في الدِّمَن من الكلأ يُرى له نضارة وهو وبيئ المرعى منتن الأصل". لماذا أفردت الكاتبة العراقية إنعام كجه جي لهذا الحديث الصفحة الأولى من روايتها "الحفيدة الأميركية"؟.. هل أرادت بذلك أن تنأى بنفسها عن بطلة الرواية، التي تمردّت على المؤلفة، واتهمتها بأنها "تدور وتناور وتفتعل المواقف لكي تكتب رواية وطنية على حسابي... رسمت لي ملامح البنت الضالة، العائدة فوق الدبابة الأميركية... نزيلة المنطقة الخضراء"! تزيح البطلة المؤلفة جانباً عن الكومبيوتر، وتتولى بنفسها كتابة قصتها الشخصية، وهي قصة لا تُصدّق: زينة بهنام شابة عراقية أميركية تغادر أسرتها في ديترويت للعمل مترجمة مع جيش الاحتلال في بغداد، حيث تقع بحب شاب من جماعة "جيش المهدي"، وتكتشف أنه شقيقها بالرضاعة!.. قصة ماكرة حاولتُ أنا أيضاً النأي عنها، منذ أرسلتها المؤلفة قبل خمسة شهور بالبريد من باريس، مع عبارة: "عزيزي، أرجو أن تروق لك هذه الرواية وتشعر بمتعة المطالعة، رغم أنها مستلة من أوجاعنا". والمتعة على قدر الأوجاع. هذا هو قانون الإبداع، وكلاهما وفير في قصة زينة بهنام التي تتقن بسرعة بذاءة مجندة في جيش الاحتلال. ترفع ساقيها على مسند الكرسي في "قصر صدام" في تكريت، قائلة: "الفحش من لزوم الموقف، وهي أول صورة لي في العراق الجديد"!. وتطلق شتيمة مقذعة حين يفخر زميلها المترجم اللبناني بصورته الفوتوغرافية مع وزير الدفاع رامسفيلد خلال زيارته لمعسكر الغزلاني في الموصل. "..." تقولها بالإنجليزية! "الحفيدة الأميركية"، جحيم ذاكرة عراقية تمشي داخل بدلة عسكرية. تحفظ عن أبيها المذيع السابق في إذاعة بغداد منتخبات الشعر بالعربية الفصحى والعراقية العامية، وعن أمها محفوظات الأغاني العراقية القديمة، وعن جدتها التراتيل الكنسية بالعربية والسريانية، والأمثال والأقوال الشعبية باللهجة الموصلية، ويزخر معجمها الأميركي بشتائم مقذعة. لا تستثني من الشتائم حتى شقيقها بالرضاعة، عندما يرفض غوايتها: "وددت لو أُترجم له الشتيمة التي تطفر إلى لساني كلما قال لي إنني أخته. لكنني أعضُّ على شفتي تحشماً منه. أول رجل في حياتي يشعرني بالخجل... هذا العصبيّ النحيل الملتحي، الذي ينضوي تحت لواء حركة طائفية متخلفة، قَلَبَ أحوالي ومارس عليّ سطوة المعشوق. تكفي نظرة منه لكي أبتلع صوتي وقاموسي المتفلت". لكنها كأي فتاة عراقية أو عربية لا تأثير لرجل عليها يضاهي تأثير أمها وجدّتها. أمها "النشاز" وسط المحتفلين في مدينة ديترويت ابتهاجاً بالحصول على الجنسية الأميركية تبكي حزناً، متذكرة أباها المتوفى العقيد الركن المتقاعد يوسف الساعور: "يابا سامحني"، وجدّتها الوحيدة الباقية من أفراد الأسرة في بغداد، تُخرج بدلته العسكرية، وتُلّمع نجومها سنوياً يوم تأسيس الجيش العراقي في 6 يناير. وعندما تتوقع زينة بهنام شظية تسقط على رأسها في "المنطقة الخضراء" ببغداد تتساءل: "هل أعيش لأُكمل هذه الحكاية التي لا تخصني بقدر ما تخصها هي، جدّتي، عدُّوتي، حبيبتي وصورة شيخوختي؟". هكذا تهيمن شخصية الجدة "رحمة جرجس الساعور" على الرواية، وتمنحها قوّتها الدرامية، إنها "حبل المشيمة" الذي يصل المجندة الأميركية بروحها العراقية. في الصفحة التي تشهد دخول الجدة الرواية، تعلن البطلة تمردها على المؤلفة، كأنها تقبل بتسليم رقبتها بيد الجدة. وتفجعها الجدة "الموصلية" التي لا ترحم. إنها نبتة البراري القصوى للعراق والأمة العربية. شتيمتها لحفيدتها: "كلب أبو بيتين" تفضح مهانة الولاء المزدوج للعراقيين القادمين على متن دبابات الاحتلال. وتمنيتُ لو أذكر هنا المثل "الموصلي" اللاذع الذي تردده الجدة عندما تسألها حفيدتها خلال زيارتها لها في معسكر تكريت ما إذا كانت تحتاج إلى فلوس. هذه الجدة التي توزع المهام يومياً على مجلس وزراء خيالي من القديسين ستدخل متحف الذاكرة الأدبية العراقية، إلى جانب نساء فؤاد التكرلي، وغائب طعمة فرمان وغيرهما من الروائيين العراقيين الذين أبدعوا نماذج نسائية عراقية لا تُنسى. وهل يُنسى مشهد اللقاء الأخير بين الحفيدة والجدة المريضة التي "تموت ولا تدع عسكرياً أميركياً يكشف عليها"!.. غامرت الحفيدة بحياتها في الخروج من "المنطقة الخضراء" متخفية لزيارتها. و"ظلت جدّتي هامدة في سريرها، فخلعتُ معطفي وحذائي واندسستُ تحت غطائها. احتضنتُها. حاوَلَتْ أن تخلّص نفسها منّي لكن عافيتها خذلتها". هذه المقاومة الغريزية الضارية التي تستبطن الرواية، تثير إعجاب الناقد العراقي الوطني فاروق يوسف الذي يأخذ على المؤلفة تسامحها مع البطلة، وعدم رغبتها "في أن تستعرض حجم الكراهية الذي أحيطت به البطلة". كتب ذلك في مقالة عنوانها "رواية ضرورية تضع يدها على جمر الهلاك العراقي". وأعترفُ أنني تسامحت بدوري مع البطلة. دوّخني شذاها العراقي المستميت. ثرثرتها الخلاّبة لا تؤثر فقط على المؤلفة الخيالية في الرواية، بل تمتد إلى المؤلفة الحقيقية نفسها. إنعام كجه جي تتدفق مرحاً بكلمات وعبارات وتراكيب عراقية عامية وأميركية مكتوبة بحروف إنجليزية، تدخلها بسهولة في صلب الرواية مع مصطلحات العصر الإلكتروني. وتحلم مع البطلة بإصبع الذاكرة "يو إس بي"، تضعه على صدغ جدتها لتنقل ذاكرتها إليها، "ثم أضع الإصبع نفسها لصق صدغي وأنقر على الإرسال"! "الحفيدة الأميركية" رواية فنية صنعتها من مادة التقارير الصحفية مراسلة صحفية محترفة تكدّ منذ سنوات طويلة في باريس. ولا يلاحظ القارئ المأخوذ بالمشاهد السريعة جهد التوثيق وجمع المعلومات عن الأحداث والمعسكرات والمدن، وحتى الأشخاص المعروفين الذين يرد ذكرهم في الرواية. وتختلط المشاهد المأساوية بتعليقات بطلة الرواية المتهكمة الماجنة، كما في الفصل الذي خصصته لتجمع أمهات قتلى حرب العراق الأميركيين في مقبرة "آرلنغتن" في واشنطن. تصف كيف يزور المقبرة ملايين السياح الذين يقفون أمام قبر الرئيس جون كنيدي، ويفكرون أن أقدامهم قد تقع على موضعي قدم زوجته جاكي. وفي اللحظة نفسها تتذكر المثل العربي الساخر الذي يردده أبوها: "وقع الحافر على الحافر"! وتعلن البطلة فقدان نفسها والمؤلفة في نهاية الرواية، التي تبدأ عشية الحرب على العراق، وتنتهي بإنهائها عقدها مع الجيش في الشهر الثالث من عام 2008. وتكتشف في تعبها وضيقها بالكومبيوتر وبالمؤلفة، كيف غيَّرتهما كلاهما خمس سنوات من الاحتلال. "عدتُ من بغداد خرقةً معصورة من خرق مسح البلاط"، وضاعت قيافة المؤلفة "لا بلوزات ملونة ولا شعر مقصوصا قصّة حديثة... أكاد أراها في ثياب سيدة من الفلوجة". وأنا لست أفضل حالاّ عندما لا أجد تقييماً للرواية أحسن من شتيمة الجدة لحفيدتها، و"أسْحَتها والله، هل الجمّاقة بنت الزقاقات"!.. ولا أعرف معنى هذه الشتيمة التي لا تترجمها إنعام كجه جي إلى لغة مفهومة لغير أهل الموصل. وحسناً فَعَلتْ. ما شأن من لا يفهم وجع القلب؟