في أكتوبر 2001 ابتعثت إدارة بوش سفيرها -مؤلف هذا الكتاب- جيمس إف. دوبينز إلى أفغانستان لمساعدة قادتها على إنشاء نظام حكم فاعل يحل محل حكومة "طالبان" التي أطاح بها الغزو الأميركي في أواخر ذلك العام. وقد جاء هذا الاختيار استناداً إلى خبرة دوبينز السابقة في مجال العمل الدبلوماسي، إذ شغل عدة وظائف سابقاً في كل من البيت الأبيض ووزارة الخارجية، بما فيها منصب مساعد وزير الخارجية للشؤون الأوروبية، وكذلك عمله مستشاراً خاصاً للرئيس في الشؤون الغربية، ثم مستشاراً خاصاً للرئيس ووزير الخارجية لمنطقة البلقان، ثم سفيراً لأوروبا. وفوق ذلك عمل دوبينز مبعوثاً خاصاً للرئيس كلينتون في كل من الصومال وهاييتي والبوسنة وكوسوفو. أما في أفغانستان، فكان دوبينز أول مبعوث خاص لها من قبل الرئيس الحالي جورج بوش. وهو يعمل حالياً مديراً لمركز سياسات الأمن والدفاع الدوليين بمؤسسة راند العالمية. تعتمد مادة الكتاب على معرفة مؤلفه الوثيقة بخفايا وأسرار الصراع داخل القوى الاجتماعية والسياسية العديدة المتصارعة من أجل السيطرة على زمام السلطة في أفغانستان، ما بين زعماء القبائل التقليديين، والنخب الحديثة المثقفة، ولوردات الحرب، وبقايا الملكية السابقة. وبحكم كونه من أوائل كبار الدبلوماسيين الأميركيين المبتعثين إلى أفغانستان، فقد حالفه الحظ في التعرف الوثيق إلى مسار الجهود الحربية والاقتصادية والدبلوماسية التي أطلقتها بلاده إثر إطاحتها بحكومة "طالبان" عقب هجمات 11 سبتمبر، التي تتحمل الحركة مسؤولية جزئية عنها مع تنظيم "القاعدة". وضمن هذه المعرفة المباشرة، تأتي المعلومات التي ساقها الكاتب في مؤلفه هذا، بمثابة إفادات شاهد عيان على تفكك أواصر التعاون التي عرف بها مجلس وزراء الحرب الأميركية على أفغانستان، خلال الفترة التي أعقبت انتهاء العمليات العسكرية هناك. وخلال تلك الفترة توهمت واشنطن أن الحرب الأفغانية قد وضعت أوزارها، ولم يبق أمام الإدارة سوى البدء بعملية بناء الأمة هناك. وبسبب هذا الوهم عارضت الإدارة اضطلاع الجنود الأميركيين المرابطين في أفغانستان بمهمة حفظ السلام، إلى جانب رفضها نشر قوات دولية كافية عقب انتهاء الحرب. ولولا هذه المعارضة لما أتيحت الفرصة المواتية لمقاتلي "طالبان" و"القاعدة" لرص صفوفهم والبدء بشن الهجوم المضاد للقوات الأميركية وقوات "الناتو"، وهو خطر جدي بات اليوم يهدد العاصمة الأفغانية نفسها، ما يعني تهديده للمغامرة الأميركية كلها في أفغانستان. ومما زاد الطين بلة، أنه لم تمض مدة كافية على جهود مكافحة الإرهاب وبسط الاستقرار الأمني والسياسي في أفغانستان، قبل أن تنزلق واشنطن إلى فتح جبهة كبيرة وأشد خطراً في العراق. وبسبب الثقة المفرطة التي أحاطت بها واشنطن انتصارها الخاطف على حركة "طالبان"، ساد الاعتقاد بين صقور واشنطن أن كل الذي ينقص أفغانستان حينها، هو إعمار ما دمرته الحرب وإعادة بناء الأمة الأفغانية. وفي ذلك الاعتقاد وهم فادح وتجاهل لتاريخ دولة عرفت بحروبها الطويلة وكراهيتها للنفوذ الأجنبي أياً كان مصدره وأهدافه. ومن هنا ينتقل المؤلف إلى الحديث عن كيف دمرت المغامرتان الأفغانية والعراقية بعضهما بعضاً، فلم تتمكن واشنطن من إنجاز أي من الأهداف الرئيسية المعلنة وراءهما على النحو المطلوب. ففي أفغانستان لا يزال الوضع الأمني مزعزعاً للغاية بدليل أن سلطة حكومتها المركزية تكاد لا تتعدى حدود العاصمة كابول. وحتى هذه الأخيرة أصبحت مهددة أمنياً بسبب تطويق فلول "طالبان" لها وتصاعد هجماتها العنيفة. ومن أقوى المؤشرات على هذا الخطر، بدء الحديث للمرة الأولى في كل من واشنطن وكابول عن تفاوض سلمي مع "طالبان". أما في العراق، فلم تتحقق الوحدة الوطنية السياسية العراقية بعد، رغم التقدم النسبي الذي أحرز في بسط الأمن والحد من شراسة الحرب الطائفية الدائرة هناك. فإذا كان الهدف -كما يقول الكاتب- من حرب العراق هو تحقيق الوفاق الوطني بين العراقيين وتمهيد الطريق أمامهم لإعادة دولتهم الديمقراطية الآمنة المستقرة، التي يمكن أن ترسي لبنة بناء الديمقراطية ونشرها على نطاق الشرق الأوسط كله -كما زعم صقور واشنطن ودعاة الحرب- فإن تحقيق هذا الهدف لا يزال أبعد ما يكون عن الواقع الماثل الآن في العراق. وفوق ذلك كله، لا يزال الوضع الأمني قابلاً للانتكاس والعودة إلى دوامة العنف تارة أخرى، متى ما تحقق انسحاب كبير في عدد القوات الأميركية المرابطة حتى اليوم. غير أن الكتاب ليس سلبياً كله في رصد أداء الدبلوماسية الأميركية في كلا البلدين، وخاصة في أفغانستان التي كرس الكتاب كله لمناقشتها في واقع الأمر. فقد حققت الدبلوماسية الأميركية نجاحاً كبيراً في تمهيد الأجواء التي أفضت إلى تشكيل حكومة الرئيس حامد كرزاي عقب نهاية الغزو مباشرة. غير أن نقص التمويل المخصص لإعادة البناء هناك، إلى جانب الحسابات الخاطئة التي أحاطت تقييم الانتصار العسكري الخاطف على حركة "طالبان" ودحرها من سدة الحكم، ومدى حقيقة استقرار الوضع الأمني عقب الحرب، تشكل جميعها مصادر الإخفاق الأساسي للمهمة الأميركية في أفغانستان. وهذا هو الدرس الذي ينبغي تعلمه والاستفادة منه في درء الكارثة والحؤول دون تفاقمها. عبدالجبار عبدالله --------- ما بعد طالبان: بناء الأمة في أفغانستان المؤلف: جيمس إف. دوبينز الناشر: سلسلة كتب "بوتوماك" تاريخ النشر: 2008