إذا ما كان هناك شيء قد تعلمته من خلال عملي كمخبر صحفي، فهو أنك عندما تبتعد عن "الشيء في ذاته"، أو"الحقيقة الجوهرية" حول موقف ما، فإنك تواجه مشكلة. ونظراً لأن باراك أوباما سوف يتعين عليه اتخاذ ثلاثة قرارات خطيرة، بعد أدائه القسم، بشأن ثلاثة موضوعات هي: السيارات، وكابول، والبنوك، فإننا لا نملك سوى أن نتمنى من أعماق قلوبنا أن يتمكن الرئيس من اتخاذ تلك القرارات بناء على "تلك الأشياء في ذواتها" وانطلاقاً من "الحقيقة الجوهرية" المتعلقة بكل موقف على حدة. القرار الأول الذي سيتخذه أوباما هو ذلك الخاص بإنقاذ "ديترويت"، ولكن ما هي الحقيقة الجوهرية حول ديترويت؟ مدراء شركات السيارات التنفيذيون سوف يقولون لك إن تلك الحقيقة تتعلق بأزمة الائتمان، والرعاية الصحية، ونفقات التقاعد، واتحادات العمال. إن ما يقولونه صحيح بالتأكيد، ولكن "الحقيقة الجوهرية" في تقديري هي أن ديترويت، ولمدة أطول مما يجب، قد صنعت عدداً من السيارات أكثر بكثير مما يجب، لدرجة أن عدداً من الناس أكثر مما يجب لم يعودوا راغبين في الشراء بدليل أننا لو تجولنا في أي حرم جامعي اليوم فلن نجد الكثير من سيارات "بويك". ولسنوات طويلة ظل رؤساء شركات السيارات في ديترويت يكررون القول: "يجب علينا أن نصنع السيارات التي يريدها الناس". وفي رأيي أن هذا كان يمثل رؤية خاطئة أدت بهم إلى الوضع الذي يجدون فيه انفسهم هذه الأيام، لأن وظيفتهم هي صنع السيارات التي لا يعرفها الناس ولكن التي سيتدافع هؤلاء الناس على شرائها عندما يرونها. ذات مرة أدلى مستشار صناعة السيارات "جون كاسيا" بملحوظة قال فيها إن إدارات شركات السيارات في ديترويت قد أصبحت تضم مديرين تقليديين لتصريف الأمور، وليس مديرين من أصحاب الرؤية، وأنا الآن أضيف إلى ما قاله إن مديري تصريف الأمور هؤلاء قد تحولوا إلى متعهدي دفن وأن ديترويت لن تستطيع الخروج من عثرتها الحالية ما لم تعمل على استبدال متعهدي الدفن هؤلاء برجال من أصحاب الرؤى. بعد ديترويت، سوف يكون أوباما مطالباً بإنقاذ أفغانستان. وعليه أن يتنبه وهو يقوم بذلك إلى أن التيار هناك قد انقلب ضدنا لأن عدداً كبيراً للغاية من الأفغان لم يعودوا مستعدين لشراء سياساتنا، أو بمعنى أكثر دقة سياسات حلفائنا، وسياسات حكومة حامد كارزاي. هذا هو "جوهر الحقيقة" في أفغانستان. إن السبب الرئيسي الذي جعل لعملية إنقاذ العراق هذا التاثير الإيجابي، هو أن العراقيين قد صوتوا لصالح هذه العملية ببنادقهم، وبحياتهم، عندما تصدوا لـ"القاعدة" وللمليشيات الشيعية الموالية لإيران. إن العراق قد تجنب الانهيار الكامل لأنه كان هناك عدد كاف من العراقيين ممن كانوا يريدون شراء ما كنا نبيعه لهم وهو التحرر من المتطرفين. هذا هو "الشيء في ذاته" الذي لا أرى الكثير منه في أفغانستان في الوقت الراهن. ربما تكون المنطقة الأكثر وضوحاً التي لا زلنا نتجنب النظر فيها إلى "الشيء في ذاته" هي المصارف. فالشيء الذي نتعامل معه هنا هو تأثير الفقاعة الائتمانية التي بدأت في أواخر حقبة الثمانينيات من القرن الماضي مع قدوم مرحلة "عولمة الأوراق المالية" أي تلك المرحلة التي كان يتم فيها تقسيم الأوراق المالية، ثم تحويلها إلى رزم من السندات الخاصة بكل شيء تقريباً ثم بيعها في كل مكان في العالم تقريباً. لقد كان من المحتم أن يأتي وقت وتنفجر هذه الفقاعة التي نشأت في أميركا وأن يكون لانفجارها تأثير مدمر على الثروات يطال حتى أكثر البنوك حصافة وتعقلا. لكن بما أن الفقاعة قد انفجرت بالفعل... فما العمل؟ إن أذكى خبراء البنوك الذين أعرفهم يدعون الله أن يتمكن وزير الخزانة في إدارة أوباما من معالجة "الشيء في ذاته"، أي أن يقوم بإجراء تحليل حقيقي لما تساويه البنوك الكبرى بالفعل في أقل تقدير، على أن يقرر، على هذا الأساس، ما إذا كانت هذه البنوك تتمتع بنسبة أوراق مالية إلى الأصول قادرة على إبقائها على قيد الحياة أم لا، ثم يقوم بعد ذلك بوضع مزيد من الاستثمارات الحكومية في تلك البنوك التي لديها القدرة، وإغلاق الأخرى التي لا تتوافر لديها القدرة. يجب علينا أن ننظف السوق كما فعلنا أيام فقاعة "دوت كوم"، وهي عملية يجب أن نقوم بها بسرعة على الرغم مما سيرافقها من آلام. باختصار، سواء تعلق الأمر بالسيارات، أو بكابول، أو بالبنوك، فإننا يجب أن نبدأ بمعالجة "الأشياء في ذاتها"، وإذا ما فعل أوباما ذلك فإن سنته الأولى في الحكومة ستكون مؤلمة للغاية، لكنه سيخرج منها أكثر قدرة وابتكاراً، وسيظل كذلك خلال السنوات الثلاث المتبقية من حكمه. أما إذا لم يفعل، فإنني أخشى أن هواجس السيارات وكابول والبنوك ستظل تلاحقه طيلة مدة ولايته. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"