الكلمة بالجملة، والبوق بالسيمفونية، هكذا تستطيع الأغلبية المؤمنة بقيم معينة النجاة بقيمها من ضربات الأقلية غير المؤمنة بتلك القيم، أما الصمت المطبق، فذنب لا يغتفر، لأن قيم الأغلبية ستكون هي الضحية. فإذا كان مجتمع ما مؤمناً بقيم إنسانية مثل التسامح والمساواة والحرية وغيرها، فإن هذا الإيمان لا يكفي ليظل المجتمع ملتزماً بتلك القيم، ولا يجدي كثيراً الاكتفاء بالعض على قيمها بالنواجذ، بل لا بد للأغلبية أن تفتح فمها وتقول: "نحن هنا"، ولا تترك الميدان للأقلية ليجولوا فيه ويصولوا، حتى لو كانت الأغلبية ترفض أفكار الأقلية، فـ"من يرفض بصمت يكون نصف موافق"، خصوصاً أن سكوت الأغلبية سيعني للأقلية إما ضعفاً وقلة حجة، وهذا سيجعل لسانهم أكثر طولاً، وإما رضاً من الأغلبية، لأن السكوت أخو الرضا كما يقولون، وبالتالي سيعتبرون أنفسهم المخوّلين من الأكثرية بتحويل بوصلة قيم المجتمع إلى الجهة الأخرى. والذي سيحصل بعد فترة من الزمان، تطول أو تقصّر، أن الأغلبية ستصبح أقلية، والعكس بالعكس، لأن الأغلبية تراخت ثم ترهّلت ثم تآكلت مع الأيام، فهناك أجيال جديدة ستلتحق بالأقلية لأنها لم تجد لغيرهم صوتاً أو لم تتوقع أن لهم وجوداً على أرض الواقع. وهناك يومياً أعداد من المؤمنين بتلك القيم الإنسانية سينضمون إلى الفكر الآخر، لأنهم لم يعودوا مؤمنين بقضيتهم لأن أحداً لا يتكلم عنها أو يدافع عنها، وسيشعر كل فرد في الأغلبية أنه غريب عن مجتمعه، وسيقول بينه وبين نفسه: ليس معقولاً أن يكون الجميع مخطئاً وأنا الصحيح. فهو لا يدري أن هناك أغلبية معه، لكنها صامتة وسلبية أمام تحرك الأقلية التي تحاول السيطرة على منابر وساحات الرأي المختلفة وتنظّر لقيمها وتعرض أفكارها وتدعّمها بالحجج والبراهين حتى لو كانت متهافتة. يفترض في الأغلبية أن تكون متأهبة تدافع عن قضيتها أمام الفكر المضاد، وأن تدخل في معركة أفكار، ولا يتطلب الأمر أن يكون المقاتل فيلسوفاً عظيماً أو أستاذاً جامعياً، فكل فرد يمكنه من موقعه أن يساهم، فإذا كتب أحد المتعصّبين مقالاً، فعلى الأغلبية أن ترد عليه. وإذا أنشأ عنصري موقعاً واحداً على الإنترنت ليبث فيه أفكاره، يجب أن تظهر عشرة مواقع مضادة. وإذا اتصل شخص ما ببرنامج إذاعي وروّج لفكر التعصّب، فعلى الأغلبية أن تتصل وتوضّح موقفها. وإذا سمع ولي أمر طالب أن معلماً يحشو أدمغة التلاميذ بالتعصّب والعنصرية والطائفية، عليه أن يذهب إلى المدرسة بوجه غاضب محمر. وحتى في الجلسات العائلية وبين الأصدقاء، فإن الذي ينفخ في بوق التعصّب، عليه أن يسمع سيمفونية في التسامح، حتى لا يكون صوت البوق هو الأعلى. بل يفترض ألا تكتفي الأغلبية برد الفعل، وإنما الترويج لقيمها الإنسانية كلما سنحت الفرصة، بالكلمة المكتوبة والمسموعة، والموقف الجاد. وإذا لم تستطع الأغلبية فعل كل هذا، فعلى الأقل أن تدعم القلة القليلة التي تتحرك، دعماً علنياً واضحاً. صمت الأغلبية إذا كان إرادياً في البداية، فإنه سيصبح صمتاً لا إرادياً لا يستطيع أن يعبّر عن رأيه أمام التيار الجارف، وسيصبح صوتها نشازاً، لأنها تنازلت بمحض إرادتها عن المنابر والساحات. وستكون هي وقيمها أول الضحايا.