لو لم يكن المؤرخ الفرنسي المختص في الشؤون الأفريقية، جيرارد برونيي، موجوداً لانبثقت الحاجة حتماً إلى وجوده ولدفعت الظروف الصعبة والمخاضات العسيرة التي تمر بها القارة الأفريقية إلى ظهوره ليسد نقصاً حاداً في تغطية أفريقيا بشجونها وهمومها وإيصالها إلى القارئ بعمق، لكن بوضوح. فالمؤرخ الفرنسي الذي نعرض كتابه اليوم بعنوان "من القتل الجماعي إلى الحرب داخل القارة: صراع الكونجو وأزمة أفريقيا المعاصرة"، أمضى أكثر من سبعة وثلاثين عاماً في القارة وعايش حروبها الطويلة، وهو من الفرنسيين القلائل الذين يكتبون بإنجليزية أنيقة يعرض من خلالها أزمة أفريقيا وعلاقتها بالصراع في الكونجو، محاولا تبديد الأساطير والقصص الملفقة التي بناها الإعلام الغربي إما للتغطية على تقصيره تجاه أفريقيا واحتياجاتها الإنمائية، أو مداراة شعور راسخ بالذنب تجاه مجازر الإبادة الجماعية التي شهدتها رواندا عام 1994 وعجز القوى الغربية عن وقف المأساة التي ستبقى وصمة عار في جبين الغرب والإنسانية. لذا يسلك المؤلف مساراً مختلفاً عن الأدبيات السابقة التي تصدت للموضوع الأفريقي والتي غالباً ما كانت تكتب باللغة الفرنسية المثقلة بالحس الأكاديمي والدراسات الأنثروبولوجية المغرقة في تخصصها دون أن تلتقط المتغيرات الجذرية التي عرفتها الدول الأفريقية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانكشاف ظهر العديد من القوى المحلية التي ارتبطت بالمعسكر الشرقي لفترة طويلة، فضلا عن التغير الذي أحدثه ذلك الانهيار في المواقف الغربية إزاء القارة الأفريقية. وفيما تركز الدراسات الأفريقية على البعد الأسطوري، مستسلمة في بعض الأحيان لمركزية غربية تختزل أفريقيا في إطار الرحلات التي قام بها الإعلاميون أو الكتاب، يركز المؤرخ بدلا من ذلك على التفاعلات السياسية والاقتصادية التي غذت إحدى أطول الحروب وأشدها شراسة في أفريقيا، كما أنه في الوقت الذي يرسم فيه المتعاطون مع الشأن الأفريقي القارة على أنها غابة من الأدغال يخترقها السواد بكل ما يحيل إليه ذلك من غموض، وهي صورة رسخها الأدب الغربي، يوظف الكاتب اطلاعه على التجربة التاريخية للقارة الأفريقية والأسباب الكامنة وراء صراعاتها ليقدم للقارئ كتاباً متكاملا يشير إلى الواقع المتردي الذي يثقل كاهل القارة السمراء وفي نفس الوقت يعود بنا إلى التاريخ من أجل فهم أفضل للحاضر. وهكذا ينقلنا الكاتب إلى إحدى اللحظات الجوهرية في التاريخ المعاصر للقارة وأحد المنعطفات المهمة التي أسيئت قراءتها، فمع أن المجتمع الدولي في عمومه احتفى بسقوط الديكتاتور "موبوتو سيسيكو" الذي حكم الكونجو الديمقراطي (زائير سابقاً) بقبضة من حديد وما رافق ذلك من مبالغات غربية في تصوير حكمه، يذكرنا بالصور النمطية الراسخة في الأذهان حول أفريقيا، اعتبر الكاتب أن هذا السقوط للديكتاتور ثم وفاته لاحقاً في عام 1997 أطلق، كما توقع هو ذاته، موجة من العنف والاضطرابات كانت الأساس الذي قامت عليه الحرب. ولتوضيح الغابة المتداخلة فعلا من الميلشيات المتحاربة والدول المتدخلة والصراعات الجانبية التي اندلعت مباشرة بعد انتهاء الحرب الباردة، يتخلى الكاتب عن التفسير الخطي السهل الذي يتبناه الإعلام الغربي بتعامله مع أفريقيا وهمومها على أنها رحلة يقوم بها الصحفي وتجربة شخصية تختبر قدرته على التحمل الجسدي والنفسي لينتقل إلى تحليل التداعيات المدمرة لجرائم الإبادة الجماعية في الكونجو والأحداث التي استقطبت لاحقاً مجموعة من الدول وصهرتها في بوتقة الحرب الكونجولية. فالكتاب كي يسلط الضوء على ما بات يعرف بالحرب العالمية الأولى لأفريقيا بالنظر إلى الدول التي شاركت فيها والأهداف التي حركتها، يرجع بنا إلى البدايات، وتحديداً إلى الشهور القليلة التي أعقبت المجازر الرواندية الرهيبة عام 1994 عندما قام متمردو "الجبهة الوطنية الرواندية" بقيادة بول كاجامي، الذين ينحدرون من أقلية التوتسي، بطرد جنود الهوتو والميليشيات المسؤولة عن المذابح، بالإضافة إلى تهجير أكثر من مليوني شخص فروا خوفاً من الانتقام لتسقط رواندا المجاورة للكونجو من جهة الشرق في أيدي التوتسي. لكن قوات كاجامي لم تكتفِ بالسيطرة على رواندا غداة المجازر، بل طاردت سكانها من الهوتو في الكونجو المجاورة. ولأن العالم الغربي لم ينسَ تقصيره أثناء ارتكاب المجازر التي راح ضحيتها التوتسي فقد أبدى تعاطفاً مع النظام الجديد عله يطوي صفحة الماضي ويبدأ مرحلة البناء دون أن ينتبه إلى تجاوزاته ضد مواطنيه وتدخله في الشؤون الكونجولية. والحال أن كاجامي استغل مشاعر الذنب لدى واشنطن ولندن ليخفي الجوانب المعتمة من نظامه ويستميل الغرب لتفهم تطلعاته الإقليمية مستفيداً من الخطأ الكبير الذي ارتكبه الهوتو باقترافهم المجازر ضد التوتسي الذين ينتمي إليهم. وبالنسبة للكاتب ليست مجازر رواندا سوى أحد العوامل التي غذت حرب الكونجو وعقدت مسارها، وهو ما تدلل عليه الاضطرابات الأخيرة في شرق الكونجو وعلاقة المتمردين الوثيقة بالنظام الرواندي الذي يمده بالدعم والسلاح لتتحول الكونجو إلى ساحة معركة حقيقية تشترك فيها بالإضافة إلى رواندا كل من أوغندا وزيمبابوي وأنجولا وناميبيا وبورنودي، بل وحتى السودان وليبيا. زهير الكساب الكتاب: من القتل الجماعي إلى الحرب داخل القارة: صراع الكونجو وأزمة أفريقيا المعاصرة المؤلف: جيرارد برونيي الناشر: هيرست بوكس تاريخ النشر: 2008