"سليمان بشير دياي" فيلسوف سنغالي ذائع الصيت دولياً، اختارته مجلة "لنوفيل أوبسرفاتير" الفرنسية منذ سنوات كأحد أهم خمسين مفكراً في العالم، وهو حالياً أستاذ بجامعة كولومبيا الأميركية المشهورة. أصدر "دياي" مؤخراً كتاباً متميزاً بعنوان "كيف نتفلسف في الإسلام؟" طرح فيه بنَفَسٍ إسلامي نقدي ومنفتح شروط تجديد الممارسة الفلسفية في الإسلام التي توقفت منذ العصور الوسطى. وقد اعتبر "دياي" أن القرن الثالث عشر الميلادي كان نقطة فاصلة بين الفكرين الإسلامي والأوروبي، اللذين وقفا موقفين متغايرين إزاء التحولات الكونية التي عرفها العالم أو أنها(إرهاصات النهضة والحداثة). ففي الوقت الذي بدأت أوروبا حركة الإصلاح الديني مستندة إلى التراث العقلاني الإسلامي، أغلق المسلمون باب الاجتهاد وحرّموا الفلسفة ونبذوا الجديد، وشكَّل نفي الفيلسوف الكبير ابن رشد وإحراق كتبه، الحادثة الرمزية لهذا الانغلاق المهلك. ويرى "دياي" أن شروط التفلسف مجدداً من داخل التقليد الإسلامي موجودة وقائمة، وتكمن في استئناف المحاولة الرائدة للمفكر الباكستاني محمد إقبال (الذي خصص له دياي كتاباً من قبل)، من خلال استثمار إشكالية "الوفاء والحركة"، التي يعتبرها الإطار النظري والمعياري للتفلسف في الإسلام. فالوفاء هو بعد الانتماء للنص المرجعي، والحركة هي بعد التجديد فيه، باعتبار أن النظرة الوجودية في الإسلام تقوم على الخلق المستمر الدائم، والمنظومة التأويلية فيه تتأسس على لانهائية المعنى واتساعه. وليس من همنا الآن استعراض النظرية الفلسفية لبشير سليمان دياي، التي تستحق وقفة متأنية، وإنما حسبنا الانطلاق منها لتبيان سبب رئيسي من أسباب كبوة المشروع الإصلاحي العربي- الإسلامي المعاصر الذي افتقد منذ البداية التأسيس الفلسفي الصلب. فالمعروف أن النظر الفلسفي واكب مسار الحضارة الغربية الراهنة في لحظات تشكلها الأساسية، سواء تعلق الأمر بالحداثة التي كانت "الديكارتية" تعبيراً فكرياً مكتملاً عنها وتشريعاً منهجياً لها، أو بالتنوير الذي كان مشروعاً ثورياً جذرياً نظر له فلاسفة القرن الثامن عشر بتحويلهم المفاهيم الفلسفية إلى إيديولوجيا تغييرية، أو بالثورات الصناعية والدستورية في القرن التاسع عشر، التي قامت على تمديد النظرة العقلانية الفلسفية إلى ميادين الاقتصاد والسياسة. ومن الجلي أن سراة الإصلاحية الإسلامية كانوا قادة سياسيين كما هو شأن خيرالدين التونسي والخديوي إسماعيل، أو فقهاء مجددين كرفاعة الطهطاوي والإمامين محمد عبده وجمال الدين الأفغاني. فبالنسبة للقادة السياسيين كان الهم الأكبر أو الطموح الأقصى هو إعادة بناء عناصر القوة العسكرية والإدارية للحاق بالأمم الأوروبية، وبالنسبة للعلماء والفقهاء كان الهدف هو تجديد الدين وفتح باب الاجتهاد باستيعاب قيم المدنية الحديثة ضمن المنظور القيمي الإسلامي. وإذا كان الفريقان إطلعا جزئياً على الأدبيات الفلسفية الحديثة، فإن هذا الاطلاع لم يتجاوز في الغالب جوانب الفكر السياسي والاجتماعي التي كانت بعض نصوصها هي الأولى التي حظيت بالترجمة للعربية (ككتب روسو ومونتسكيو...). صحيح أن التقليد الليبرالي الذي تشكل في عشرينيات القرن المنصرم بدا انفتاحاً ملموساً على الفكر الفلسفي، بيد أن حَمَلة هذا الفكر كانوا أساساً من الصحافيين من نوع سلامة موسى، أو الأدباء من أضراب طه حسين والعقاد، ولم يكن هذا التأثر يتجاوز النقد الفكري والاجتماعي والتبشير بقيم العلمنة والتحديث. وإذا كان مصطفى عبد الرازق حاول بناء رؤية فلسفية جديدة في الإسلام، كما أن أحمد أمين الذي لم يكن متخصصاً في الفلسفة قدم قراءة جديدة للتراث العقلي في الإسلام، فإن الكتابة الفلسفية الأولى بالمعنى الدقيق للعبارة لم تسبق في السياق العربي وجودية عبدالرحمن بدوي ووضعية زكي نجيب محمود. أما الأول فكان تأثيره محدوداً في الفكر الإصلاحي العربي لإغراق نزعته الفلسفية في التجريد والفردية، ولذا لم يبق من أعماله سوى الترجمات والتحقيقات والشروح. أما الثاني فبدا فكره عرضاً تبسيطياً للفلسفات التحليلية الوضعية التي أرادها خلفية نظرية لتحديث المجتمع العربي، وانتهى إلى نمط من النزعة التوفيقية المتصالحة مع المرجعية التراثية دون تقديم أفق بنائي منسجم. أما الفلاسفة العرب المعاصرون الذين اشتهروا في العقدين الأخيرين، فأرادوا التفلسف من خلال البوابة التراثية بإعادة قراءة المخزون الثقافي الوسيط بأدوات التأويل المعاصرة، لكنهم سلكوا أحد اتجاهين: إما تحويل النص التراثي إلى ميدان معركة مع التيارات الإسلامية لافتكاك الشرعية الدينية أو تقاسمها وصولاً إلى القطاعات العريضة للأمة التي لا يزال الإسلام رأسمالها الرمزي الأوحد، أو التطبيق الآلي لمناهج التأويل ومسالك العلوم الإنسانية المعاصرة على النص التراثي انطلاقاً من مصادرة زائفة بأن هذا التطبيق في ذاته ممارسة إصلاحية لها مردود تغييري جذري (نموذج محمد أركون). إن المبحث الفلسفي العربي- وإنْ اغتنى كثيراً في السنوات الأخيرة بمفاهيم ومصطلحات وأدوات تحليلية جديدة- إلا إنه لم يصبح أرضية نظرية ولا قوة دافعة لتحديث المجتمع العربي والنهوض به، والسبب العميق لهذه الثغرة هو حسب اعتقادنا اختزال الفلسفة في منتوجها المعرفي بدلاً من بعدها الإشكالي التساؤلي، الذي هو فضاؤها الإبداعي كفن لاختراع المفاهيم حسب تعريف "جيل دلوز" لها. ففلسفة "ديكارت" مثلاً لا يمكن اختزالها في نظرية الشك والكوجيتو، بل هي تأسيس لمرجعية الذات الواعية التي هي نقطة التحول والقطيعة التي قامت عليها الحداثة. وفلسفة "كانط" لا تتلخص في النقدية الثلاثية للعقل، بل هي تأسيس للنزعة الإنسانية المعاصرة، وفلسفة هيجل لم تكن فقط فلسفة مجردة للتاريخ، بل هي محاولة مكتملة للتفكير في الدولة الليبرالية الحديثة وحل إشكالاتها السياسية. فما غاب عن مفكرينا هو هذه القدرة على المعالجة الفلسفية لإشكالاتنا الثقافية والاجتماعية بأدوات الفلسفة، التي هي الاشكالية المفهومية بالتفكير في مسائل الهوية والخصوصية بصفتها قضايا إنسانية كونية، لا هموماً ذاتية ضيقة. سئل الفيلسوف الفرنسي الكبير "ميشال فوكو" عن الخيط الناظم لأعماله الواسعة والمتنوعة، فأجاب إن السؤال الوحيد الذي أراد الرد عليه من خلال مداخل ومسالك عديدة هو "ما هي أوروبا؟" حتى لو كان هذا السؤال لا يظهر أبداً في كتاباته. أما مفكرونا فقد عجزوا في الغالب عن التفكير في إشكال الهوية، على الرغم أنه الهاجس الأوحد لهم.