بينما كنت أعدُّ حلقة هذا الأسبوع من برنامجي التلفزيوني "وجهة نظر" الذي تبثه قناة أبوظبي، راودتني بعض الأفكار المزعجة. أحد ضيوفي كان الصحفي من مجلة "نيوزويك" مايكل إيزيكوف المتخصص في التحقيقات والحائز على عدة جوائز دولية. وكنت قد وجهتُ إليه الدعوة من أجل المشاركة في البرنامج ومناقشة قصة غلاف عدد هذا الأسبوع، الذي حمل عنوان "العميل الفيدرالي الذي دق ناقوس الخطر" (قصة العميل الفيدرالي الذي كشف برنامج إدارة بوش للتنصت غير القانوني على المواطنين الأميركيين)، وتغطيته المستمرة لقضايا الفساد التي تعصف بولاية إلينوي -التي تركزت عليها الأضواء مؤخراً أكثر بعد اعتقال حاكم تلك الولاية، رود بلاجوجيفيتش. تحكي خلفيات الغلاف القصةَ المزعجة لـ"توماس تام"، المدعي العام السابق والمسؤول رفيع المستوى في وزارة العدل. فذات يوم، عثر "تام" صدفة على ما اعتقدَ أنه دليل على عمل مناف للقانوني، فأبلغ زملاءه ورؤساءه في العمل، ولكنه أُمر بالتزام الصمت. وبعد معاناة مع الحيرة والتفكير في ما ينبغي فعله في وقت تنازعه ولاءان متضادان -التزامه تجاه عمله وتجاه ما اعتقد أنه هو الصواب- رأى "تام" أنه لا خيار أمامه سوى التحرك، فاتخذ القرار الحاسم المتمثل في الاتصال بصحيفة "نيويورك تايمز"، ليصبح بذلك "واحداً ممن يدقون ناقوس الخطر". وبعد عام على ذلك، نشرت "نيويورك تايمز" مقالًا مطولاً حول استعمال إدارة بوش للتنصت غير القانوني على المواطنين الأميركيين، فأثار ذلك حفيظة الجمهور، ومرر الكونجرس تشريعاً يوفر بعض التدابير التصحيحية، وفاز صحفيو "نيويورك تايمز" بجوائز بوليتزر تقديراً لعملهم الصحافي الجيد. أما "تام"، فقد دمرت حياته، حيث أغار عملاء "مكتب التحقيقات الفيدرالي" على منزله مشهرين أسلحتهم، واحتجزوا أوراقه وحاسوبه، بل واستجوبوا عائلته. وهو اليوم بدون عمل، ومثقل بالديون، ويعاني الاكتئاب. وتلك باختصار هي قصة غلاف إيزيكوف. أما قصة الفساد في إلينوي، فليست أقل إثارة للصدمة. فقد اعتُقل أربعة من الحكام الثمانية الأخيرين للولاية بتهم الفساد، وكانت أحدثها تلك التي وُجهت لحاكم الولاية بلاجوجيفتش وشركائه، حيث أظهرت المكالمات عبر هاتفه الذي كان تحت المراقبة بإذن من المحكمة محاولاته عرض مقعد الرئيس المنتخب باراك أوباما الذي بات شاغراً في مجلس الشيوخ للبيع لمن يدفع أكثر. وهو ما يرجعني إلى الأفكار المزعجة التي ساورتني: التجسس الحكومي، انتهاك الحقوق، استغلال السلطة -هل باتت أموراً مألوفة؟ مع كامل احترامي للحكام المستبدين في بعض بلدان العالم الثالث، فإن هذه الأمور هي الجرائم نفسها التي نندد نحن الأميركيين -كنظام ديمقراطي "متنور"- بالآخرين إذا ارتكبوها. والآن، وقبل أن يشطح بالبعض خيالهم، دعوني أضيف أنه إذا كان من الواضح أن نظامنا ليس مثالياً، مثلما تؤكد ذلك كل هذه الأخطاء، إلا أنه يقوم على مؤسسات توفر الفرصة للتصحيح. ولهذا أعتقد أنه من الأهمية بمكان أن نتحرك الآن لتصحيح هذه الأخطاء. فبكثير من التصميم، من المنتظر أن يدفع المدعي العام باتريك فيتزجيرالد بقضية بلاجوجيفيتش إلى الأمام، وستتاح للحاكم، سواء عزل أم لا، الفرصة للدفاع عن نفسه. ولكن، ماذا عن الانتهاكات الخطيرة التي ارتكبها بعض المسؤولين في إدارة بوش: من المذكرات التي شكلت تبريراً للتعذيب واستغلال المعتقلين، إلى التجسس غير القانوني على المواطنين الأميركيين؟ هناك بالطبع إمكانية مقلقة وواقعية لإصدار بوش، خلال أيامه الأخيرة في البيت الأبيض، عفواً شاملاً يوفر الحصانة للأشخاص الذين كانوا متورطين في هذه الأعمال. ثم هناك بعض "الديمقراطيين" الذين يجادلون بأنه سيكون من غير الحكمة أن تقوم إدارة أوباما المقبلة بـ"النبش في الماضي" وملاحقة الأشخاص الذين خرقوا القانون في الإدارة المنتهية ولايتها. غير أن كلا الأمرين سيشكل خطأ فادحاً على اعتبار أنهما لن يؤديا إلا إلى مفاقمة وتكريس انعدام العدالة. وعليه، فإن علينا أن نسلك المسلك الصحيح: لابد من المحاسبة، مهما كانت مؤلمة، وإلا فإن مبادرة "توماس تام" ومعاناته ستكون قد ذهبت سدى، وستكون دولتنا قد فشلت في الوفاء بالتزامها تجاه حكم القانون.