قبل حوالي أربع سنوات تم تأسيس هيئة للصحفيين السعوديين. ومنذ اليوم الأول لتأسيسها وهي في حالة دفاع عن النفس. واجهت الهيئة وتواجه الكثير من النقد، وأحاط بنظامها وعملها الكثير من الجدل. بعض النقد يتعلق بالهيئة ذاتها، والبعض الآخر يتعلق بعلاقتها بوزارة الثقافة والإعلام. من الانتقادات التي توجه للهيئة أن أعضاء مجلس إدارتها هم من قيادات التحرير في الصحف. فمثلا رئيس مجلس إدارة الهيئة هو رئيس تحرير جريدة "الرياض". ونائب الرئيس هو رئيس تحرير صحيفة "الجزيرة". لا شك في أن الخبرة الطويلة لكل من الأستاذين الكريمين في المجال الصحفي، وما يتمتعان به من مكانة وعلاقات متشعبة في المجتمع يصب في مصلحة الهيئة. وبالتالي فإن تبوؤهما لموقع قيادي في الهيئة قد يأتي معه بمنافع مالية وسياسية لها. لكن يبقى أن الجمع بين أعلى منصب في الهيئة، وأعلى موقع في جهاز التحرير في هذه الصحيفة أو تلك يتضمن تناقضاً واضحاً في المصالح بين متطلبات الوظيفتين. كيف يمكن في هذه الحالة التوفيق بين مصلحة رئيس التحرير المرتبطة بمصلحة صحيفته في الإعلان، وتكاليف التحرير، وخدمة سياسات الصحيفة ومكانتها، وبين مصلحة رئيس هيئة الصحفيين أو نائب الرئيس، أو الأمين العام المفترض أنه معني بحماية مهنة الصحافة وتطويرها، وبحماية حقوق الصحفيين بغض النظر عن الصحيفة التي يعملون فيها؟ بل كيف يمكن لصحفي أن يتظلم عند تعرضه لإشكال وهو يعمل لدى رئيس تحرير يتولى في الوقت نفسه رئاسة الهيئة؟ رئيس التحرير أو نائبه في هذه الحالة هو المتهم والقاضي معاً. كيف يجيز نظام الهيئة مثل هذه التناقضات؟ واللافت، حسب ما قاله أمين عام الهيئة لصحيفة "الحياة"، أن قيادات الهيئة تعمل بشكل تطوعي، ومن دون مرتب. والسؤال هنا: هل الهيئة مؤسسة خيرية تطوعية، أم مؤسسة مهنية؟ ثم ماهو المردود الذي تتوقعه هذه القيادات من عملها التطوعي في الهيئة؟ وهل له علاقة بمناصب هذه القيادات ومصالحها في الصحف التي تعمل فيها؟ لعله من الواضح أنه لا يستطيع غير رؤساء التحرير تحمل القيام بمثل هذا العمل بشكل تطوعي من دون مقابل مالي؟ حالة الجمع هذه بين منصب قيادي في الهيئة من دون مقابل مالي، والاحتفاظ بمنصب قيادي آخر في الصحيفة بمقابل مالي كبير، تمثل سابقة، قد تتحول إذا سمح لها مع الوقت إلى تقليد يؤدي في الأخير إلى أن تصبح المناصب القيادية في الهيئة حكراً على قيادات إدارية أو تحريرية في الصحف. وهذا لا يتعارض تماماً مع أبسط مبادئ ومتطلبات الهيئة كمؤسسة مهنية يفترض أنها تمثل إحدى مؤسسات المجتمع المدني وحسب، بل يتعارض مع أبسط المبادئ القانونية للمهنة، والتي تشترط في المنصب عدم وجود تناقض في المصلحة. في السياق نفسه يبرز سؤال آخر: كيف يمكن ضمان أن رئيس الهيئة، أو نائب الرئيس لن يستخدم نفوذه للتأثير على خيارات بعض أعضاء الهيئة ممن يعملون تحت رئاسته في الصحيفة أثناء عملية التصويت في الانتخابات؟ وقد أشارت بعض الصحف إلى أن التصويت في انتخابات الهيئة يتم في أغلبه تبعاً لتوجيهات رؤساء تحرير الصحف. واللافت أن نتائج انتخابات الأمس لأعضاء مجلس الإدارة أبقت على الخمسة الأوائل من أعضاء المجلس. وبالتالي فالأرجح أن تبقى التشكيلة الإدارية للمجلس من دون تغيير كبير. وإذا صح ما يقال حول هذا الموضوع، فإنه يمثل نوعاً من استتباع قيادات التحرير في الصحف للمحررين فيها، واستخدامهم لإغراض انتخابية. وهذا استغلال غير أخلاقي لحاجة الصحفيين، يتعارض مع مبادئ وأخلاقيات المهنة، فضلا عن تعارضه مع القانون. يحدث كل ذلك في حين أن المخرج لمثل هذه الاشكاليات واضح، وهو تعديل نظام الهيئة بحيث يشترط فيمن يتولى منصباً قيادياً فيها الاستقالة من منصبه كرئيس أو نائب لرئيس التحرير في الصحيفة التي يعمل فيها. استمرار هيكلية الهيئة بوضعها الحالي سيؤدي إلى بروز تحالفات بين قيادات التحرير في الصحف التي تحقق لنفسها مراكز قيادية في الهيئة على تقاسم النفوذ داخل الهيئة بما يخدم مصالح صحف هذه القيادات قبل غيرها، والمصالح الشخصية لهذه القيادات داخل كل صحيفة! حقيقة أن الهيئة في بداية تأسيسها، وأن العمل فيها يسير منذ البداية على هذا النحو يعني أن تشكيلها والتأسيس لها يتم حتى الآن بطريقة لا تخدم الغرض الذي أنشئت له، وتشوه مصداقيتها، وتضعف من مبناها وهيكلها القانوني، الأمر الذي قد ينتهي بها لأن تصبح مجالاً خصباً لخدمة مصالح فردية على حساب مصالح المؤسسة نفسها، ومصالح المهنة التي يفترض أنها قامت لخدمتها! بسبب ذلك ربما من الطبيعي، ونظراً لحداثة تجربة الهيئة، تخبطها في مواقف متناقضة ومحرجة، لم تكن في حاجة إليها. حيث أشارت مثلاً صحيفة "الوطن" إلى أن الهيئة بادرت في الماضي إلى إصدار بيانات استنكار لاغتيال الصحفي اللبناني سمير قصير عام 2005، وبيان تضامن مع الصحفية اللبنانية مي شدياق ضد محاولة اغتيالها. وهذه مواقف تحسب لها. لكن في مقابل ذلك لم تقف الهيئة أو تتضامن مع صحفيين سعوديين أوقفوا، أو فصلوا من عملهم. بدلا من ذلك لاذت بالصمت. وقد بررت موقفها بأن هؤلاء الصحفيين الذين أوقفوا ليسوا ضمن قائمة أعضائها. وهذا تبرير غريب يوحي بأن الهيئة غير معنية بمهنة الصحافة، وحقوق الصحفي بقدر ما أنها معنية بإعضائها. لكن، هل ستقف الهيئة مع أعضائها مستقبلا؟ وكما تساءل البعض: هل الصحفيون اللبنانيون الذين تضامنت معهم الهيئة أعضاء فيها؟ الملاحظات السابقة تجعل من الهيئة مؤسسة هجينا. فلا هي مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني معنية بمصلحة المهنة التي تمثلها، ولا هي مؤسسة حكومية عامة مسؤولة عن تطبيق أنظمة الدولة في مجالها. يؤكد ذلك الطبيعة المرتبكة لعلاقة الهيئة بوزارة الثقافة والإعلام. وحسب علمي فإن الكاتب داود الشريان هو الوحيد الذي تناول موضوع هذه العلاقة في زاويته في صحيفة "الحياة" بإسلوب ساخر ولاذع ينبئ بعودته إلى ما يتميز به. حيث ذكر بأن الوزارة هي التي صممت نظام الهيئة، وهي التي أعطتها هذا الاسم بدلا من جمعية مثلا، وهي ممثلة في لجنة الإشراف على انتخابات الهيئة. هذا إلى جانب أن الوزارة هي التي تعين رؤساء تحرير الصحف. بعبارة أخرى، وزارة الإعلام تهيمن على الهيئة بشكل يخرجها تماماً من نطاق مؤسسات المجتمع المدني. فهذه المؤسسات هي حصرا تلك التي تقع خارج النطاق الرسمي للدولة، وتتمتع باستقلال مالي وسياسي، مباشر أو غير مباشر، عن الدولة. وبناء على ذلك فإن وظيفة المؤسسة حسب تخصصها ينبغي أن تكون محصورة في خدمة مصلحة المهنة التي تمثلها، وخدمة مصالح المنتمين للمهنة، وحماية حقوقهم. في حين أن الدولة معنية بحماية مصالح وحقوق جميع المواطنين بغض النظر عن مهنهم أو انتماءاتهم المختلفة. تدخل وزارة الإعلام على النحو المشار إليه يلغي استقلال الهيئة، ويربك وظيفتها بشكل لا يخدم أهداف أي منهما. ربما جاز القول، استناداً إلى أن القانون في السعودية وبقية دول مجلس التعاون يمنع قيام نقابات، بأن الهيئة ليست نقابة، ومن ثم فالنقد الموجه لها لا يأخذ في الاعتبار الحدود القانونية التي تحكم عملها. وهذا غير صحيح. فكون القانون لا يجيز قيام النقابة لا يعني أن تفقد الهيئة استقلالها وطبيعتها كمؤسسة مجتمع مدني، ولا يعني أن يأتي نظامها متعارضاً مع هدفها، أياً كان هذا الهدف. بل إن قيام الهيئة في بيئة قانونية لا تسمح بالنقابات يضاعف من مسؤوليتها في حماية حقوق من ينتمون إلى المهنة التي تمثلها، لا أن يؤخذ كمبرر للتخلي عن هذه المهمة الكبيرة. من ناحية ثانية، فإن أغلب النقد الموجه للهيئة يتعلق بالنظام الذي وضع لها. وهو نظام يتعارض رأساً مع الهدف الذي يقال إنها قامت من أجله. كيف يمكن تطوير مهنة الصحافة من دون حمايتها من الانحراف عن طبيعتها المهنية، ومن دون حماية حقوق الصحفيين؟ هذا مستحيل. يبدو أن الوضع المرتبك للهيئة هو الذي سهل مهمة نقدها المستمر، وجعلها باستمرار رهينة لموقف الدفاع عن نفسها. يقال بأن الإنجاز الوحيد للهيئة، بعد أربع سنوات من التأسيس هو امتلاك مبنى جميل كامل التأثيث في حي الصحافة بالعاصمة السعودية. وقد صادق أمين عام الهيئة على هذا النقد عندما لم يجد إنجازاً يشير إليه غير المبنى.