بدأت المسألة تخرج إلى العَلَن في السياق المحلي اللبناني قبل قُرابة العشرة أيام، وذلك عندما بدأ الجنرال عون يُصرّح بنتائج زيارته إلى دمشق بالتقسيط أو على دفعات. ففي طلّته الثانية أو الثالثة ذكر فجأةً التفاوض السوري مع إسرائيل، والذي يتقدم، ويمكن أن يُصبحَ مباشِراً، ودعا الحكومة اللبنانية إلى الإفادة من الفُرصة، والذهاب إلى جانب دمشق للتفاوُض مع إسرائيل. وبعد يومين على ذلك، صرَّح الرئيس الأسد أنه من الطبيعي عندما يتقدم التفاوُض، أن يُصبح مباشِراً. وكان السوريون قد ربطوا التحوُّل إلى "المباشرة" بأن تتقدم الولاياتُ المتحدةُ لرعاية المفاوضات؛ وهو ما رفضه الأميركيون آنذاك، ثم عادوا إلى صمتهم العميق. بيد أنّ المشهد لا يكتمل إلاّ بعنصرٍ أو عنصرين؛ الأول من جهة إسرائيل، والثاني من جهة غَزَّة. ففي الوقت الذي كان الأسدُ فيه قد أعطى الجنرال عون امتيازَ الإعلان عن اتجاهه للتفاوُض المُباشر، كانت الضجةُ عاليةً في إسرائيل بشأن هذا الأمر بالذات. فقد مضى نتانياهو زعيم المعارضة الإسرائيلية إلى باريس، ومن هناك أعلن عن تذمُّره لأنَّ المجتمع الدوليَّ لا يأبهُ حتى الآن للخطر النووي الإيراني على الدولة العبرية، كما تذمَّر من تسرُّع حكومة أولمرت المستقيلة في التفاوُض مع سوريا، وعدم تأخير ذلك لما بعد الانتخابات الإسرائيلية. ومن هذه الإشارة فهم المعلِّقون الإسرائيليون أمرين: أنّ هناك رسائل متبادَلة بين سوريا وإسرائيل عبر تركيا، ومن المطالب السورية أن تُوافقَ إسرائيلُ على ترسيم الحدود بين البلدين قبل الانسحاب، أما من الجانب الإسرائيلي فهناك مطلب تحويل المفاوضات إلى محادثاتٍ مباشرة. والأمر الثاني أنّ فرنسا على علمٍ بالموضوع، والرئيس ساركوزي قادمٌ إلى المنطقة يوم 6 يناير المقبل وسيزورُ بيروت ودمشق. لذلك فقد قصد باريس كُلٌّ من نتانياهو ثم أُولمرت الذي لم ينسَ استئذان المحكمة التي تحقق في تهم الفساد المنسوبة إليه، وهل يحقُّ له التفاوض والوصول إلى قراراتٍ واتفاقياتٍ مع سوريا رغم محاكمته. ومع أنه ليس معروفاً بعد هل الولاياتُ المتحدةُ على استعدادٍ لتلبية طلب الأسد بالرعاية والضمان؛ فالذي يبدو أن الأسد يميلُ لاستئناف التفاوُض الآن على الأقلّ (عقد الجولة السادسة)، أي قبل تَوَلّي أوباما، وقبل الانتخابات الإسرائيلية، والأهمّ: قبل نهاية رئاسة فرنسا للاتحاد الأوروبي خلال الشهر القادم. وهنا تأتي لحظةُ غَزَّة أو أهميتُها في هذا السياق. فقد أعلنت "حماس" والتنظيمات الحليفةُ لها قبل عشرة أيامٍ أيضاً عن انتهاء التهدئة مع إسرائيل، وبدأ سقوط الصواريخ على القُرى الإسرائيلية، وتصاعد الردُّ الإسرائيليُّ، كما تصاعدت التهديدات وآخِرُها قول وزير الحرب الإسرائيلي باراك إنَّ الردَّ على "حماس" سيكونُ قاسياً، وقول ليفني في القاهرة إن سيطرة "حماس" على غزة لم تَعُدْ مقبولة، لأنَّها تُعيقُ عملية السلام، وقيام الدولة الفلسطينية! والمفهوم أنَّ "حماس" استشارت سوريا في قرارها بالعودة للكفاح المسلَّح، لكنّ المفهومَ أيضاً أنّ إيران أَصدرت توجيهاً بذلك، بدليل ما سبق القرار من تصعيدٍ إيرانيٍ ضدَّ السعودية، وأكثر َضدَّ مصر، واعتبار مصر مسؤولةً عن حصار غزة مثل إسرائيل. لذا فالذي أرى أنه قد يكونُ بين مبرِّرات سوريا وإسرائيل معاًً في التسرُّع إلى استعادة التفاوُض والوصول إلى مرحلةٍ حاسمةٍ فيه، ما يمكن أن يكونَ مقدِّمةً لحرب جديدةٍ بين إسرائيل و"حماس"، وربما إسرائيل و"حزب الله"، تُرغمُ سوريا على العودة إلى المربَّع الأوَّل، أي المربَّع الإيراني، أو تؤخّر قدرتَها وإمكانياتها على مُغادرتِه. وإذا كانت سوريا تتعجَّلُ التفاوُض، لأنها لا تُريدُ الانغماسَ من جديد في مسألة المقاومات التي تُحاولُ مُغادرتها منذ مُدَّة؛ فمن جهة إسرائيل فإنّ المغادرة السورية باتجاه تل آبيب والغرب في مقابل الجولان، تُشكّلُ مقتلاً لـ"حماس" ولـ"حزب الله" في أمدٍ ليس ببعيد. والرمزيُّ والمُوحي في هذا الصدد تصريح "حماس" بأنها مستعدَّةٌ لقُبول وساطة تركيا في تجديد التهدئة مع إسرائيل؛ مُريدةً بذلك القول إغاظةَ مصر والتعبير عن عدم ثقتها بها، والتعبير عن قَبولها بأن تكونَ طرفاً في التفاوُض مع إسرائيل من خلال تركيا، مثلما قبلت سوريا! لكن ما الذي تُريدُهُ إيران من هذا التصعيد الآن، بواسطة "حماس"، وبواسطة "حزب الله"؟ لا شكَّ أنّ أحد الأهداف القريبة منع سوريا من الذَهاب بعيداً الآن على الأقلّ، لكي تظلَّ لامتدادات إيران التي حققتها خلال السنوات الماضية قيمتها عندما يأتي التفاوُض مع الولايات المتحدة، ومع السُداسية، وقد صرَّح الرئيس الأميركي المنتخَب تصريحاً واحداً في المسألة: إرادة التفاوُض مع إيران بالجزرة (رزمة الحوافر التي قدمتْها السُداسية بحضور مندوب أميركي للمرة الأولى قبل ستة أشهُر)، وبالعصا. وهكذا فإنّ إيران حصلت بالفعل على "الرُزمة" أو في حُكْم الحاصلة عليها. لذا فالهدفُ الرئيس للتصعيد الآن هو استكشاف إمكان الحصول على المزيد. وربما كان ذلك المزيد في أمن الخليج، وفي العراق وسوريا ولبنان. ومن هنا نفهمُ ما وردَ في حديث الدكتور محمد البرادعي مدير الوكالة الدولية للطاقة النووية قبل أيام. وقد جاء فيه: إن على العرب أن لا يغيبوا عن مفاوضات المجتمع الدولي مع إيران بعد الآن (أي لأنَّ التفاوُضَ سيكونُ عليهم أو على مصالحهم!). والمعروف أنّ الخليجيين (باستثناء قطر وعُمان) حضروا الاجتماعَ التشاوُريَّ الأخير للسُداسية بنيويورك، كما حضروا اجتماعَ الرُباعية، والذي صدر على أثره قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1850 بشأن التسوية في فلسطين، بدعمٍ أميركيٍ وروسيٍ مشترك. ولنَعُدْ إلى الخطوة السورية الأخيرة ومداها وآثارها. أولمرت من جهته أعلن في حديث تلفزيوني يومَ الخميس الماضي، أنه يريد تفاوَضاً مباشراً مع الرئيس الأسد، وسوف يُفاجأُ الأسدُ بالإيجابية الكبيرة التي سيُقابلُ بها الإسرائيليون مطالبَهُ، والضمانات المرغوبة. وساركوزي آتٍ إلى المنطقة بعد أُسبوع، وعنده ثلاث مهامّ: تشجيع سوريا على خَوض التفاوُض المُباشِر، ودعوة لبنان للشيء نفسِه من أجل تحرير أرضه، ومؤازرة سوريا التي كانت إيجابيةً معه بإقامة علاقات دبلوماسية، وإجراء مصالحة بين المسيحيين اللبنانيين (بدأت بوادرُها بالتصالُح بين البطرك وسليمان فرنجية)، تجمعُهُمْ من حول سوريا، وربما تُقَوّي الجنرال عَون في مسارِه الجديد. فساركوزي حليفٌ قويٌّ لإسرائيل، ويُهمُّهُ أَمْنُها، والمسيحيون اللبنانيون من حول الجنرال عون مُفيدون في المشهد الإقليمي والعالمي لكي تبدوَ سوريا صديقةً للمسيحيين، وحاميةً لهم، ولكي يشكّلوا عنصراً ضاغطاً في المشهد السياسي اللبناني الداخلي باتجاه مُسالمة إسرائيل هم وسوريا. أمّا الاستجابات في المشهد الداخلي اللبناني لتوجُّه الجنرال عون الجديد، فما كانت مشجِّعةً حتى الآن. بعضُ نُواب "حزب الله" اكتفَوا بالقول إنّ الحزب ضد التفاوُض المباشر وغير المباشر. والنائب سعد الحريري قال إنه لا مصلحةَ في الأَمْر أيضاً. والرئيس السنيورة قال إنّ الحديث عن التفاوُض ما يزال مبكّراً. والرئيس الحصّ حمل على السياسة السورية في التفاوُض المنفرد. أمّا زعماء المسيحيين فاكتفوا بالإشارة إلى التصرفات المتناقضة للجنرال عون. فقبل شهرٍ تقدم للجنة الحوار الوطني بمشروعًٍ لاستراتيجيةٍ دفاعيةٍ مدتُها عشر سنوات، تجعلُ من لبنان قوةً عسـكريةً مهمـةً بالمنطقة لردْع إسرائيل، واستيعاب المقاومة أو الاستعانة بها. ثم ها هو الآن يريدُ سلاماً عبر مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، لا تعودُ بالدخول فيه حاجةٌ لتلك القوة العسكرية الضخمة! ما حصل الاشتباك الداخليُّ بلبنان بعدُ إذن. لكنّ الوزير والنائب السابق سليمان فرنجية كان قد أَنذر قبل خمسة أيامٍ بأننا قادمون بلبنان على اضطراباتٍ واغتيالات. وليس معلوماً من هي الجهات التي ستقوم بذلك. ويوم الخميس الماضي اكتُشفت ثمانية صواريخ بالناقورة على مقربة من الحدود مع فلسطين المحتلة، مُعَدَّة للإطلاق. وما يُقالُ عن لبنان، يُقالُ أكثر منه عن المحيط العربي. إذا ما كانت هناك حتى الآن ردودُ فعلٍ بارزة. ويبدو أنَّ الجميع ينتظرون بدءَ التفاوُض المباشر ليقولوا رأْيَهُمْ. هناك فقط صحفيٌّ لبنانيٌّ سخر من بعض المعلِّقين التلفزيونيين، والذين دأَبوا على الإشادة بممانعة الرئيس الأسد، وقيادته للكفاح ضد إسرائيل، وشتم أعدائه باعتبارهم عملاء لإسرائيل، ماذا سيقولون الآن، وكيف سيبرِّرون ما حصل ويحصُل. والذي أراهُ أنّ الرجل مهمومٌ أكثر من اللازم، إذ إنه باستثناء الرئيس الحصّ الذي يُحبُّ التعليقات والمواقف المبدئية، لن يجد من الذين ذكرهم غير الإشادة بهذه" السيطرة" من جانب الرئيس الأسد على المشهد الداخلي في إسرائيل، كما في لبنان! ولله في خَلْقه شؤون.