سبقت الحربين العالميتين الأولى والثانية أزمات اقتصادية شكلت أحد الأسباب الرئيسية لاندلاعهما في بداية ومنتصف القرن الماضي. ومع بروز ظواهر الأزمة المالية العالمية الحالية وفي ظل الإدارة السابقة لـ "المحافظين الجدد"، أصبح العالم على كف عفريت، بل إن بعض المحللين اعتبر أن احتداد الأزمة المالية بهذه الصورة قد يعني بداية لحروب مدمرة في العديد من مناطق العالم، بما فيها منطقة الشرق الأوسط. وفي تلك الأثناء بلغ التوتر بين موسكو وواشنطن ذروته مع اقتراب نهاية الولاية الثانية لبوش، وذلك بعد أن قرر المضي قدماً في تنفيذ برنامج الدرع الصاروخية في بولندا وجمهورية التشيك. ولم تتأخر روسيا في الرد من خلال إعلانها نشر صواريخ من طراز "إسكندر" في منطقة كالينغراد المحاذية لبولندا ودول البلطيق على رغم المصاعب الاقتصادية الناجمة عن الأزمة المالية، مما أعطى دفعاً جديداً للآراء التي تؤكد على أن الخروج من هذه الأزمة سيكون باهظاً جداً ليس بسبب الخسائر المالية، وإنما بسبب خسائر الحروب التي يمكن أن تودي بحياة الملايين إلى جانب الخسائر المادية. ربما كان ذلك تحليلاً متسرعاً، فمع مجيء الرئيس الجديد باراك أوباما تغيرت قواعد اللعبة، ويبدو أن الأزمة المالية العالمية الحالية لن تشعل حرباً عالمية، كما هو الحال في الحربين العالميتين السابقتين، بل على العكس من ذلك، فالأزمة الحالية ربما تؤدي إلى إلغاء مشاريع الحروب التي كانت تخطط لها الإدارة الأميركية السابقة. فالرئيس الأميركي الحالي له رأي آخر، ففي الأسبوع الأول من ولايته ألغى عمليا عدة حروب، منها الحرب على الإسلام، حيث أبدى استعداده لفتح صفحة جديدة مع العالمين العربي والإسلامي، كما توقفت الحرب على غزة، ووجه إشارات إيجابية إلى "محور الشر" كما أطلق عليه الرئيس السابق، وأخيرا أعلن عن تعليق نشر الدرع الصاروخية في بولندا وجمهورية التشيك. ولذلك، فإن تصريح وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون الذي قالت فيه: "إن العالم تنفس الصعداء مع مجيء أوباما"، كان صحيحاً إلى حد بعيد، فشبح الحروب ابتعد عن مناطق عديدة، أما إمكانية نشوب حرب عالمية بسبب نشر الدرع الصاروخية، فقد أصبح أمراً مستبعداً تماماً. وإذن يمكن القول إن التداعيات الاستراتيجية والأمنية للأزمة المالية العالمية الحالية تختلف كلياً عن تداعيات الأزمتين الأولى والثانية، فالحل لن يأتي من خلال إشعال حرب عالمية أخرى، وإنما من خلال التعاون الدولي والتنسيق بين مختلف بلدان العالم لمحاصرة هذه الأزمة ووضع الاقتصاد العالمي من جديد على طريق النمو، ولكن في ظروف جديدة وضمن توزيع جديد لميزان القوى العالمي من الناحيتين الاستراتيجية والاقتصادية. ولا يخفى على أحد ان الحروب الأميركية في أفغانستان والعراق قد أنهكت الاقتصاد الأميركي وكلفته أكثر من ثلاثة مليارات دولار شهرياً، مثلما أنهكت الحرب السوفييتية على أفغانستان الاقتصاد السوفييتي وأدت إلى انهياره في نهاية المطاف. وإذا كانت نتائج حرب الاتحاد السوفييتي قد أضرت باقتصاد البلدان المنضوية ضمن جمهورياته في ذلك الوقت، فإن الأضرار التي لحقت بالاقتصاد الأميركي شملت العالم بأسره بسبب اعتماد بلدان كبيرة، كالاتحاد الأوروبي والصين وكوريا الجنوبية على السوق الأميركية في صادراتها للخارج. ولو لم تكن الأزمة المالية، هل كان بإمكان شخص بمواصفات أوباما أن ينجح في الانتخابات ليصبح أول رئيس أميركي من أصول أفريقية؟ ولو لم تكن الأزمة المالية، هل كان بالإمكان تخفيف حدة التوتر في العالم من خلال إلغاء برامج الحروب المتعددة والواردة على أجندة الإدارة الأميركية السابقة ضمن ما يسمى باستراتيجية الحروب الاستباقية؟ أسئلة يعرف الجميع الإجابة عليها، فالأزمة على رغم قساوتها عكست اتجاه وطبيعة الصراعات العالمية، وفتحت آفاقاً جديدة لبناء علاقات دولية جديدة لم يعد للقطب الواحد فيها مكان، فالعالم وبفضل الأزمة المالية تحول من جديد إلى عالم متعدد الأقطاب، وفي هذا التحول الاستراتيجي الكثير من الفرص لتأسيس علاقات متكافئة بين مختلف بلدان العالم واتجاهاته.