لا تقل المعارك الثقافية أهمية عن المعارك العسكرية والاقتصادية والسياسية. فالنضال كل واحد، ذو أبعاد متعددة. وهي أهم من بعض المعارك الإعلامية التي تقوم على الزيف وقوة الإعلام والقدرة على الخداع والإيهام في صفوف الرأي العام الغربي والدولي. وهي الحصن الأول والأخير للصمود من أجل نيل الحقوق المشروعة التي نصت عليها الشرعية الدولية. التمسك بالحق هو لب معارك الأنبياء في رسالاتهم، ومعارك المفكرين الأحرار وفلاسفة التنوير عبر التاريخ الذين ينقلون مجتمعاتهم من مرحلة إلى أخرى. هي معارك الكم والكيف. فقد يغلب الكيف الكم كما حدث في غزوة بدر (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ). وقد ينهزم الكم كما حدث في حُنين، (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ). والمعارك الثقافية هي معارك المبادئ والقيم والتمسك بالحقوق ورفض سياسة التنازلات والمساومات وأنصاف الحلول في سبيل رفع راية الحق والحقيقة "والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه". فالقيم هي أسباب قيام الحضارات. تقوم بقيامها، وتنهار بانهيارها. وعلى ذلك اتفق ابن خلدون في حضارتنا وروسو في الحضارة الغربية. وقد ادعت الحضارة الغربية، الأوروبية والأميركية، أنها تقوم على المبادئ والقيم الإنسانية، وأنها النموذج الذي يُحتذى به إذا شاءت كل حضارة أن تتقدم مثلها. وبهذه الطريقة قدمت نفسها ومنظومتها الثقافية على أن قيمها عامة وشاملة للإنسانية جميعاً. لذلك تدعو للحوار، حوار الثقافات، وحوار الحضارات، وحوار الأديان. وتعني بالحوار التحول إلى قيمها ورؤيتها للعالم وليس الوصول إلى قيم عامة مشتركة تجمع بين الحضارات، إلى كلمة سواء، (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِن دُونِ اللَّهِ). فالوعي الغربي لا يعترف إلا بذاته بفعل تجذر عقلية التمركز حول الذات فيه وفي مخياله الجمعي. فهو مركز العالم. وغيره في أطرافه. هو الذي يمثل القيم الآرية في مقابل غيره من القيم السامية. هو الذي عرف العقلية المنطقية في حين ظل غيره في العقلية البدائية الأسطورية. وهو وحده حضارة العقل في حين أن غيره حضارة السحر والخرافة. هو وحده حضارة العلم وغيره حضارة الدين. وقد تبلور ذلك كله في النظريات العنصرية في القرن التاسع عشر التي جعلت أوروبا نهاية العالم وتطوره. ففيها اكتمل التاريخ والحضارة والتطور، بحسب رؤية بعض فلاسفة تاريخها المتبنين لهذه المركزية الذهنية. لذلك أعطى العقل الغربي لنفسه الحق في الانطلاق إلى خارج حدوده الجغرافية في حركة استعمارية للالتفاف حول القارات الأخرى، أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، بدعوى التحديث وتحقيق "رسالة الرجل الأبيض" لدى الشعوب الملونة السوداء والسمراء والصفراء. وبذلك ادعت أوروبا أن لها رسالة تحديثية للعالم كله، فوقعت عمليةالكشوف والاستعمار التي نعرف الآن جميعاً ما انتهت إليه. وفي الممارسة وقعت أوروبا في المعيار المزدوج. تدعي العقلانية وتدمر المدارس وتقضي على اللغات الوطنية كما فعل الاستعمار الفرنسي في الجزائر والبريطاني في الهند. وتحولت بعض الشعوب المستعمَرة إلى حالة استلاب ثقافي أدت بها إلى استبدال لغاتها الأصلية بلغات المستعمر فأصبحت ناطقة باللغة الفرنسية (فرانكفونية) أو ناطقة باللغة الإنجليزية (أنجلوفونية). ومع ذلك تدعي الثقافة الغربية الدفاع عن حقوق الإنسان، وأنها هي التي أعلنت الإعلان العالمى لحقوق الإنسان مرتين، الأولى بعد الثورة الفرنسية، والثانية بعد الحرب العالمية الثانية. ولكنها في الوقت نفسه تخرق هذه الحقوق لدى الشعوب المستعمرة بقتل النساء والأطفال والشيوخ، وكما تفعل إسرائيل مع الشعب الفلسطينى، وتعتقل وتمارس أبشع أنواع التعذيب. وتدعي العلم وتنشر الأسطورة والخرافة. وما زالت الأمية لدى الشعوب المستعمرة من أعلى المعدلات. وتدعي نشر التقدم وما زالت الشعوب المستعمرة في أعلى معدلات التخلف الاجتماعي والسياسي والثقافي. وتتشدق بالحرية وهي تمارس أبشع أنواع القهر والإبادة الجماعية كما تفعل إسرائيل مع الشعب الفلسطيني في غزة. وتزعم أنها تنشر مبادئ الإخاء والمساواة الإنسانية وهي تمارس أبشع أنواع الاستغلال والتفاوت الطبقي بين الأغنياء والفقراء حتى في مجتمعاتها الغربية نفسها. ومن ثم تتكسر حدود المبادئ والقيم الأوروبية على حدودها الجغرافية بل تنقسم داخلها على حدود أوروبا الغربية وحدها لأن أوروبا الشرقية بها آثار الشرق والدولة العثمانية في البلقان. وفي الولايات المتحدة الأميركية يمثل "الواسب" البيض الأنجلوساكسون البروتستانت قمة الوعي الأميركي، ودونهم الأوروبيون، ثم الإسبان، ثم الأفارقة أي كل الملونين. فالإنسانية إنسانيتان من وجهة نظر غربية. يُدافع الغرب عن دارفور ويطلب بإحالة رئيس جمهورية السودان إلى محكمة الجزاء الدولية ويترك شعب فلسطين في غزة ضحية الإبادة الجماعية العلنية التي لا يرقى إليها الشك. ويرفض إدانة إسرائيل حكومة وجيشاً، ويعتبر أن ما تقترفه من عدوان جماعي على المدنيين الأبرياء "دفاعاً عن النفس" ضد الإرهاب. ويطالب بالإفراج عن الجندي الإسرائيلي الأسير شاليط ولا يطالب بالإفراج عن أحد عشر ألف أسير فلسطيني في سجون إسرائيل ما فتئوا يواجهون قساوة ممارسات الاحتلال كما واجهت أوروبا الاحتلال النازي طبقاً لمواثيق الأمم المتحدة. ويطالب بمراقبة تهريب السلاح من الأنفاق إلى قطاع غزة أو عبر البحر من خلال الميناء، ولا يطالب بإيقاف إرسال شحنات السلاح إلى إسرائيل من الدول الغربية عامة جواً وبحراً وإسرائيل هي المحتلة وفلسطين ترزح تحت الاحتلال. ويدين إطلاق مقذوفات محلية الصنع من القطاع إلى البلدات المحتلة حوله دون إدانة صواريخ الأرض والجو على القرى الفلسطينية من طرف إسرائيل وتجريف الأراضي والاستيطان في أراضي الغير وقتل الأبرياء. إن الوعي الأوروبي والغربي بصفة عامة ظل في جوهره وعياً رومانياً. تقبع فيه روح الإمبراطورية الرومانية والقوة الرومانية والعضلات الرومانية أكثر من العقل اليوناني والحكمة اليونانية. فقد ورث الرومان اليونان، وغلبت القوة على الحكمة. وظل يهودياً أكثر منه مسيحياً. يقوم على مفهوم الاختيار، والميثاق، والوعد الإلهي وأرض الميعاد وليس الميثاق الأخلاقي الروحي الفردي الشامل الذي عرضه المسيح في "العشاء الأخير" مقابل العهد اليهودي المادي أحادي الطرف. ولم يتحرر من هذا الميثاق الجماعي الخاص إلا بعض الأفراد من اليهود الأحرار مثل اسبينوزا ومندلسون، والمسيحيين الأحرار من فلاسفة التنوير، واستمرار هذا الوعي لدى السياسيين والأدباء والفنانين والمفكرين الأوروبيين والغربيين مثل تشومسكي ومايكل مور وغيرهم من الذين يعلنون رفضهم لهذه الازدواجية في المعايير التي يمارسها الوعي الأوروبي والغربي عامة، قادة وسياسيين وإعلاميين. إن الوعي الثقافي بأصول النضال الوطني هو الذي يحميه من الوقوع في التنازلات والمساومات وأنصاف الحلول في الحقوق المشروعة. وهو القادر على فضح ثقافة الآخر غير المتوازنة، ثقافة التفوق وازدواجية المعايير. وإن لم يكن الحوار بين طرفي الصراع بين متكافئين، فإنه يكون إملاء شروط القوي على الضعيف والمعتدِي على المعتدَى عليه. إن الموقف المبدئي هو في إنسانية جديدة يوسع الوعي الأوروبي فيها حدوده الأخلاقية كي تشمل أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. تتجاوز ثنائية المركز والأطراف، والأبيض والأسود، واليوناني والبربري.