مع انصراف "فتح" و"حماس" عن الجدالات العلنية إلى المحاثات بالقاهرة، ينجلي غبار المعارك عن مشهدٍ بائسٍ لأهل غزة، ولسائر العرب. وهو مشهدٌ ليس فيه منتصرٌ ومهزومٌ، بل مُدنٌ خربةٌ، وأُناسٌ لا يعرفون لماذا ماتوا، وآخرون لا يعرفون كيف يبقون على قيد الحياة. وبين الطرفين، تشتد الضغوط المتبادلة لإطلاق سراح بعض الأسرى في مقابل الجندي الإسرائيلي الأسير. ويستطيع الإسرائيليون خلال أسبوعٍ أو أسبوعين أن يعودوا لاعتقال عشراتٍ أو مئاتٍ، ثم نعود فنشعل المعارك للحصول على أسيرٍ أو أسيرين نستطيع استخدامهما لإطلاق سراح بعض الذين أُسروا حديثاً أو قديماً. وفي كل الأحوال يظلُّ عدد الأسرى بأيدي الإسرائيليين أحد عشر ألفاً وأكثر! أمّا الاستيطان فهو قائمٌ على قدمٍ وساق، وبالأمس صادرت سلطات الاحتلال ستمائة دونم من أجل توسيع مستوطنة بالضفة الغربية، أمّا القدس فالحديث عنها وعما يجري فيها تقشعرُّ لِهَوله الأبدان، وتفقدُ الكلماتُ طَعمها ومعناها. قد يكونُ من حُسْن الطالع أنّ الحماسيين كفُّوا منذ أيام عن الحديث عن المقاومة والتحرير. أمّا الأمين العامّ لـ"حزب الله" فما كَلَّ ولا مَلّ. وقد حاول إقناعنا قبل أيام أنّه و"حماس" هزما إسرائيل في البر والبحر، وباقٍ أن يهزموها في الجو، وهذا أمرٌ غير صعب، إذا تملكوا سلاحاً صاروخياً مضاداً للطائرات! وهكذا ينتهي الأمر بهزيمة إسرائيل في خطابٍ نسمعُهُ منذ الستينيات، دون أن يعني ذلك أنّ أهل غزة وجدوا المأوى أو الماء أو الكهرباء أو الغذاء. لكنّ جماعة منظمة التحرير ليسوا أَحْسنَ حالاً. فلو فرضْنا أنهم جاهزون بالإعداد والاستعداد للتسْوية وإقامة الدولة؛ فإنه ليس هناك الآن سياسيٌّ إسرائيليٌّ واحدٌ يريد التهدئة حقاً، فضلاً عن أن يَقْبَلَ بالانسحاب من المستوطنات، والسماح بإقامة الدولة الفلسطينية العتيدة. وهكذا نعودُ بعد كلّ معركةٍ خاسرةٍ إلى حالة اللاحرب واللاسِِلْم، دون أن نملك شجاعة النظر إلى الوراء، والمراجعة والنقد، ومحاولة تلمُّس آفاق جديدة. إذ الحقيقةُ أنّ الإخوة الفلسطينيين لا يستطيعون ولا يرغبون الآن في قتال إسرائيل، ثم إنهم إنْ لم يقاتلوها فليس معنى ذلك حصولهم على السلم والتسْوية. والآن وقد انجلى غبار المعارك عن لا شيء غير الضحايا والخراب، لستُ أدري ماذا يقول الطرفان العربيان اللذان انقسما حول "فتحٍ" و"حماس" أو من حول المقاومة والتسْوية، كما يحب الأمين العام لـ"حزب الله" أن يقول! فإذا كان الإخوة الفلسطينيون عاجزين عن المراجعة، بسبب الهول الهائل الذي يحيطُ بهم، ويسُدُّ عليهم الأنفاس، أفلا نستطيعُ نحن الذين انقسْمنا من حولهم أن نتلبَّث قليلاً لننظر ماذا أَنجز كُلُّ منا لنفسه أو للفلسطينيين؟ وألا نستطيع في الحدّ الأدنى أن نفكّر عنهم ومعهم في كيفية إعادة إعمار غزّة، وإيواء هؤلاء المشرَّدين تحت السماء والطارق، في ليل وشتاء سواحل البحر المتوسط الطويلة العريضة؟ وها نحن مقبلون بعد شهرٍ ونيِِّفٍ على مؤتمرٍ للقمة العربية بالدوحة، وقد ينتظر منا بعضُ الذين لم ييأسوا فيصرفوا النظر، أن نقول شيئاً يتعلق بفلسطين أو يتعلق بقضايا الأمة العربية الأخرى الكثيرة والعالقة! وقد اهتمَّ بنا ولنا أو معنا كُلٌّ من الإيرانيين والأتراك، أما الإيرانيون فقد توقفوا لبعض الوقت عن تهديدنا بتحرير فلسطين بمفردهم، وعادوا لإنذار دول الخليج العربية بالحرب والويل والثبور لجرأتها في الحديث عن الجُزُر الثلاث التي تحتلُّها إيران، كما أقبلوا على تذكُّر ممتلكاتهم القديمة من أيام كسرى أنو شروان في البحرين! وبين هذا وذاك ينظرون فيما جمعوا من أَوراق من أَجْل التفاوُض مع الولايات المتحدة؛ في حين ينظرون بتوجُّسٍ إلى التحركات السورية، وهل يعودُ السوريون لمحاولة الخروج من قبضتهم، مثلما فعلوا قبل وقعة غزة بالتفاوُض مع إسرائيل، وبعد وقعة غزّة بالدخول في المصالحة العربية! أمّا الأتراك فينهمكون في جدالاتٍ لا تنتهي مع إسرائيل جزاءً لهم على انزعاجهم مما حدث للفلسطينيين، بعد أن مكثوا لستة عقود أصدقاء للكيان ومُشايعيه. فإذا تحدث الأتراك عن مذبحة غزة، يذكر لهم الإسرائيليون مذابح الأرمن في الحرب العالمية الأولى. وإذا ذكروا الأراضي المحتلّة، يذكر لهم الإسرائيليون احتلال شمال قبرص. وإذا ذكروا حقوق الفلسطينيين ذكّرهم الإسرائيليون بحقوق الأكراد! وهكذا فالحقيقةُ الباقيةُ بعد انجلاء غُبار المعارك، أنّ الإسرائيليين ما تزحزحوا قيد أُنْمُلةٍ عن مواقعهم أو مواقفهم. ولا يبدو من نتائج الانتخابات أنهم سيفعلون شيئاً من ذلك. في حين ينتظر الأميركيون بعد التلهُّف الشديد تشكيل الحكومة الإسرائيلية، ويتلهَّونَ بالحديثِ عن انقسام الفلسطينيين والنُصْح لهم بأن يتوحَّدوا لتُصبح كلمتُهم مسموعة. أمّا عندما كان الفلسطينيون موحَّدين؛ فإنَّ الأميركيين كانوا مشغولين باحتلال أفغانستان والعراق، والحرب على الإرهاب في الجوّ وتحت الماء! لقد أردتُ من وراء استعراض مجريات الوضع الراهن بالنسبة للعرب وخصومهم، أن أصلَ إلى استنتاجٍ مؤدَّاه أننا فقدْنا لسانَنا أو خطابَنا، وبنتيجة ذلك، رَكَّبَ الآخرون ألْسِنةً غير ألْسِنَتِهِمْ في الكلام معنا، فبدا الأمر كأنما هو بُرجُ بابل بحسب منطق التوراة. فنحن لا نتكلم أو لا نقولُ كلاماً مفهوماً (أو مُقْنِعاً)، والآخَرون، ولأنّ الإحساس بغيابنا يتملكُهُم، أضاعوا القدرة على مخاطبتنا باعتبارنا حاضرين، فصاروا يتحدثون عمّا يريدون هم ويتصورون، وهم لا يخاطبوننا بذلك؛ بل يخاطبون أَنْفُسَهُمْ أو بعضَهُم. والخروج من المأْزق يتطلَّبُ استعادة ألْسنِتنا أو خطابَنا. وهذا ليس بالأمر السَهْل، لكنه لم يَعُدْ مستحيلاً. فقد مررنا منذ خرجتْ مصر من الصراع العربي -الإسرائيلي أواخر السبعينيات، بثلاث مراحل: مرحلة المُزايدة الثورية، والتي انتهت بغزو صدّام حسين للكويت. ثم مرحلة الانكفاء والانكماش، وأخيراً مرحلة التناوُش علينا بين الأميركيين والإسلاميين والإيرانيين والأتراك. في المرحلة الأولى (المزايدة الثورية ) وقعْنا ضمن خطّ الصراع بين الدول الثورية العربية على الزعامة لخلافة مصر وهي: العراق وسوريا وليبيا، والجزائر (التي ما لبثت أن انسحبت من المشرق كُلّه بوفاة بومدين). وكان الأميركيون يُعدُّون للجولة الأخيرة في صراعهم مع الاتحاد السوفييتي، فتنافس الثوريون والإسلاميون على إرضائهم بشتّى الوسائل. وكانت طريقة كُلٍّ من حافظ الأسد والقذّافي جمع المجانين ثم المُساومة عليهم مع القوى الدولية. في حين كانت طريقة صدّام حسين للحصول على الزعامة الحروب المباشرة، ومرةً أُخرى لتخويف القريب، وإثْبات الكفاءة والاستحقاق في المشهد الدولي المتطوّر لصالح الولايات المتحدة. واقترنت حربُ الخليج الثانية، التي أدخلتنا في مرحلة الانكفاء، بظاهرتين: تجربة الولايات المتحدة لهيمنتها المطلقة بعد نهاية الحرب الباردة فينا، وهياج الإسلاميين لمجابهة "الأميركيين والصهاينة" بعد ضربة العراق. بيد أنّ الانكفاء ما رفع رايات الإسلاميين وحسْب؛ بل جلب إلى المشرق العربي والخليج مطامح ومطامع إسرائيلية وأميركية وإيرانية وتركية. وفي مرحلة الانكفاء تلك، انكمشت كلُّ دولةٍ عربيةٍ على نفسِها، وحاولت اتّقاء الشرّ بمجاملة إيران والولايات المتحدة وتركيا، بل وسارع البعضُ بالمشرق والمغرب لمجاملة إسرائيل ومُحاسنتها. وانصرف الإسلاميون، للسيطرة على القضية الفلسطينية، في حين انصرفت "القاعدة" للتأهُّل لمهاجمة الولايات المتحدة بالذات. وقد تسبّب هذا الغيابُ العربي (حتى تعذُّر إقامة مؤتمرات القمة) بفوضى عارمة، وصراع خارجي على النفوذ، وتراجُع حظوظ متابعة مدريد، وإنفاذ أوسلو، فاندفعت الولاياتُ المتحدةُ مع الرئيس بوش الابن مستفيدةً من "الفوضى البنّاءة" للاستيلاء العسكري على كلّ شيء رجاءَ إخماد الموجة الإسلامية العاتية. لكنْ مع الولايات المتحدة وهجماتها ظلَّ الإسلاميون حاضرين، وازدادت شراسةُ الإيرانيين، ومطامح الأتراك، ومكاسب الإسرائيليين. إنّ الذي يحدُثُ منذ ثلاث سنوات أنّ العربَ يحاولون استعادة صوتهم، وهويتهم وانتمائهم. فإيران قالت إنها ضد الشرق الأوسط الكبير الذي بشّرت به الولاياتُ المتحدة. لكنّ الشرق الأوسط الكبير ما استفاد منه غير الإيرانيين والأتراك والإسرائيليين، الذين شرعنوا جميعاً حضورَهُمْ على الساحة العربية بواسطته. وهكذا ازداد التحدي للهوية العربية وللانتماء العربي. في الوقت الذي عجز فيه الآخرون عن "تنظيم" تنافُسِهِمْ على أرضنا وقضايانا. ولذا فالضرورةُ لنا، والضرورةُ للاستقرار أن نحضُر بإمكانياتِنا وقُدُراتنا، ومن وراء الإمكانيات والقُدُرات: الصوتُ والخطاب بالخروج من الانكفاء، وبتحدّي الغياب والتغييب، وبالإصغاء إلى آمال جمهورنا وأشواقه. وهذه هي المرحلةُ الجديدةُ التي يكون علينا إرغام المتنافسين على الاعتراف بها وبنا، بدون افتئاتٍ ولا استيلاء.