لا تحمل هذه السطور أية محاولة لاستعداء عربي على إيران، أو سعي للمواجهة معها، لكن البديل لا يمكن أن يكون غفلة عربية تهدد المزيد من مصالح الأمة وكيانها. والمناسبة معروفة بطبيعة الحال وهي التصريحات التي نسبت مؤخراً لناطق نوري المفتش الخاص في مكتب المرشد العام للثورة الإيرانية، والتي قيل إنه تحدث فيها عن البحرين باعتبارها "المحافظة الرابعة عشرة" لإيران. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تحدث فيها مثل هذه الأزمة في العلاقات العربية- الإيرانية، فمن قبلها جاءت تصريحات آية الله صادق روحاني، ورئيس تحرير صحيفة "كيهان" ومستشار المرشد العام حسين شريعتمداري والنائب في البرلمان الإيراني داريوس قنبري. هذا إذا نسينا الأزمة المفتعلة عند استقلال البحرين. تبدو التصريحات مقلقة بطبيعة الحال لأن تكرار صدورها عن دوائر رسمية أو شبه رسمية في نظام كالنظام الإيراني أياً كانت الجهة التي أطلقتها قد يعني وجود نوايا إيرانية تجاه المزيد من بلدان الخليج والوطن العربيين، لكن ما يقلق أكثر هو ردود الأفعال العربية التي تقتصر على المستوى التكتيكي ولا تتجاوزه إلى التفكير الاستراتيجي فيما يجب عمله إزاء هذا التهديد، أو على الأقل إزاء هذا التهديد المحتمل، فالتصريحات الإيرانية تقابل ببيانات الرفض والتنديد العربية، وزيارات التضامن مع البحرين، فماذا يجدي هذا كله لو أن هناك نية إيرانية مبيتة تجاه البحرين؟ من ناحية أخرى تراجعت إيران كالعادة، وذهبت دوائر مسؤولة فيها إلى أن التصريحات قد حرفت أو فهمت خطأ، فقد ذكر الناطق باسم وزارة الخارجية حسن قشقوي لتليفزيون "العالم" الناطق بالعربية أن "موقفنا من البحرين واضح، وأكدنا مراراً أننا نحترم سيادة واستقلال كافة الدول المجاورة والمنطقة وخصوصاً البحرين"، وأضاف "ليست لنا تطلعات في أي بلد. هذه عاصفة خلقها الإعلام، وناطق نوري لم يكن يشير إلى البحرين"، وتابع أنه -أي ناطق نوري- "تحدث في خطابه في مشهد عن إنجازات الثورة الإسلامية، وقارنها بعهد الملكية المكروه. لم يتحدث مطلقاً عن المسائل العالمية والإقليمية والسياسية الراهنة"، وحذر الإعلام من مغبة "إعادة فتح الخلافات القديمة لأنها لن تفيد شعوب المنطقة أو الأخوة أو الصداقة". من المفيد بطبيعة الحال أن يتراجع الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الإيرانية عن هذه التصريحات وغيره من المسؤولين الإيرانيين لاحقاً بمن فيهم ناطق نوري نفسه، لكن طريقة التراجع تبدو منطوية على كثير من الالتباس، فهو ينفي بالمطلق أن تكون مسألة البحرين قد طرحت في خطاب نوري في مشهد، ويقول إنه اقتصر على المقارنة بين عهدي الملكية والثورة، فهل يريدنا أن نفهم مثلاً أنه كان يندد بالمزاعم الإيرانية "الشاهنشاهية" في البحرين قبيل استقلالها؟ وهنا من الضروري أن تسارع جهة عربية مسؤولة ما أو مركز بحثي للحصول على ترجمة نصية دقيقة لهذا الخطاب، فمن الحقيقي أن عدم دقة الترجمة كثيراً ما أدى إلى أزمات دولية، وإن كان التبرير الإيراني يبدو غريباً، والحصول على نص رسمي للتصريحات قد يكون صعباً. لكن المسألة على أية حال تتجاوز التصريحات الإيرانية بكثير، فقد تكررت هذه التصريحات من قبل كما سبقت الإشارة، وصدرت عن جهات متنوعة الأمر الذي يعطي لها بعض الصدقية على الأقل ولو من باب بالونات الاختبار، وللتذكرة فإن إيران -بغض النظر عن تصريح هنا أو هناك- تحتل أراضي عربية هي الجزر الإماراتية الثلاث، وتمارس نفوذاً واسعاً في دولة ثانية هي العراق، ولها علاقات وثيقة مع دولة ثالثة هي سوريا، بالإضافة إلى حضور قوي بشكل أو بآخر في عدد من الدول العربية الأخرى من خلال قوى سياسية تناصر إيران وتحظى بدعمها. وتعد هذه كلها مؤشرات على مشروع إيراني إقليمي متنامٍ في الوطن العربي سبقت الإشارة غير مرة إلى خطورته، وربما يكون مبعث الخطر الأكبر فيه أنه ملتبس، فإيران لها الحق بطبيعة الحال في أن يكون لها دور إقليمي، وهذا الدور يتقاطع مع بعض المصالح العربية كما في المواجهة مع إسرائيل على سبيل المثال، وإن كانت سبل إدارة هذه المواجهة تفرق بين عدد من الدول العربية على الأقل وبين إيران كما اتضح في أكثر من مناسبة كانت آخرها هي العدوان الإسرائيلي على غزة، لكن المشروع الإيراني يتصادم من ناحية أخرى مع مصالح عربية محددة كما سبقت الإشارة حالاً، ومن المؤكد أن هذا الصدام سوف يزداد حدة إن اكتملت أركان المشروع الإيراني في المنطقة. وليس مجدياً الدخول في جدل عقيم حول "أولوية الأخطار"، أي المقارنة بين الخطرين الإسرائيلي والإيراني، فلا مجال للمقارنة بينهما من أي وجه من الوجوه، لكن تضاؤل الأهمية النسبية لخطر ما يهدد الأمن العربي مقارناً بغيره من المخاطر لا يعني عدم مواجهته أو تأجيل هذه المواجهة، وقد أتت على العرب لحظة زمنية اضطروا فيها إلى التضحية بموقفهم المتشدد إزاء مصر بعد عقدها معاهدة سلام مع إسرائيل في1979 عندما تصاعد الخطر الإيراني على العراق ودول الخليج العربية إبان الحرب العراقية- الإيرانية اعتباراً من1986، ولذلك تمت المصالحة المصرية- العربية ابتداءً من قمة عمان1987 استناداً إلى هذه الخلفية، أي ضرورة التكتل العربي في مواجهة الخطر الإيراني. ولا أنادي بطبيعة الحال -خاصة في مثل هذه الظروف- بأي تهاون في المواجهة العربية ضد إسرائيل، خاصة وقد أصاب الموقف العربي تجاهها ما أصابه من وهن أظهره العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، ولكن الفكرة أن تعاظم الخطر الإسرائيلي لا يعني السكوت على التهديد الإيراني. وكما سبقت الإشارة في غير موضع فإن الموقف العربي المطلوب هو بناء رؤية موحدة قدر المستطاع تجاه إيران، وبناء قاعدة للقوة العربية تجبر إيران على احترام المصالح العربية والتعامل مع الوطن العربي تعامل الند للند بدلاً من أن يجعل منه بعض إعلامييها أو مسؤوليها ساحة اختبار لمقولات خطيرة علينا أن نثبت أن الزمن قد عفا عليها.