حين كان الصحافيّ البريطانيّ كريستوفر هيتشنز يحاضر، قبل أيّام، في الجامعة الأميركيّة في بيروت، واجهه سؤال أُصيب صاحبه بالاستفزاز: "لكن حركة حماس منتخبَة شعبيّاً"، كما قال السائل الرافض لنقدها من قبل الصحافيّ البريطانيّ. بيد أن الأخير وجد نفسه وفي يده حجّة دامغة، إذ إن أفيغدور ليبرمان وحزبه الفاشيّ "إسرائيل بيتنا" كانا قد حصلا للتوّ، وعبر انتخابات برلمانيّة أيضاً، على الموقع الثالث في توزّع الأصوات الإسرائيليّة، بحيث سبقا حزب "العمل" الذي هو المؤسّس التاريخيّ للدولة العبريّة ومحتكر قيادتها السياسيّة والفكريّة ما بين نشأتها في 1948 وانتخابات 1977. هكذا أجابه هيتشنز بما معناه أن الانتخاب بذاته لا يعني الكثير، فليبرمان أيضاً مُنتخَب. كلام كهذا ما كان من السهل التفوّه به قبل سنوات قليلة، حين كان الرئيس الأميركيّ السابق جورج دبليو بوش وإدارته يحوّلان الديمقراطيّة إلى ترياق وخلاص تاريخيّين، تماماً كما كانت الاشتراكيّة لدى معتنقيها إبّان الخمسينيات والستينيات. ذاك أن الديمقراطيّة، كشعار ومبدأ، بدأت اليوم، على ما يبدو، تتخلّص من هالتها الخلاصيّة والإطلاقيّة لتُناقش كفكرة نسبيّة. فإذا كان صحيحاً، على ما قال ونستون تشرشل ذات مرّة، ان الديمقراطيّة تبقى "الأقلّ سوءاً بين نظريّات سياسيّة سيّئة كلّها"، فالصحيح أيضاً أن للأخذ بهذه الديمقراطيّة شروطاً محدّدة، اقتصاديّة وثقافيّة ومجتمعيّة، كوجود طبقة وسطى وشيوع أفكار زمنيّة وعلمانيّة، مما لا يمكن القفز فوقه بالرغبات والنيّات الحسنة وحدها. وهنا لعبت النظريّات الأميركيّة دوراً بالغ الرداءة إذ ساوت بين الديمقراطيّة والحريّة: فما دام أن الجميع يحبّون الحريّة فالمعنى أنّهم يحبّون الديمقراطيّة، وهذا مع العلم أن الأولى تطلّب طبيعيّ فيما الثانية تطلّب مؤسّسيّ وتنظيميّ. وهذا قد لا يكون اكتشافاً. فنحن نعرف أن الأوروبيّين ناقشوا كثيراً دلالات الفوز الانتخابيّ الذي حقّقه أدولف هتلر ونازيّوه في ألمانيا عام 1933 والكوارث التي ترتّبت على ذاك الانتصار. كذلك، وعلى نطاق أضيق وأقلّ أهميّة، أثيرت مسائل الديمقراطيّة والانتخابات في منقلب الثمانينيات- التسعينيات الجزائريّة، حين حقّقت "جبهة الإنقاذ" الإسلاميّة في الجزائر انتصارها المعروف في الدورة الاقتراعيّة الأولى. هكذا عُطّلت الانتخابات وكان ما كان من حرب أهليّة راحت تتوالى فصولاً. وشاهدنا حالات مشابهة مع تصويت النمساويّين بكثافة لـ"حزب الحريّة" وزعيمه الراحل هايدر، والفرنسيّين لـ"الجبهة الوطنيّة" وقائدها لوبن. وفي كلّ هذه التجارب كان يُقال، غالباً بحقّ، إن هذه القوى ما أن تصل إلى السلطة عبر الانتخابات حتّى تعطّل العمليّة السياسيّة جملة وتفصيلاً. غير أن أدبيّات حرب العراق في 2003، تتويجاً للأدبيّات الأميركيّة التي غلب التسطيح على معظمها بعد 11 سبتمبر 2002، أعادت هذه المسألة إلى صدارة غير مسبوقة، مصحوبةً بنوع من التنزيه الأخلاقيّ والقيميّ يكاد يحرّم كلّ نقد في شأنها. والحال أن هذا التنزيه لم ينفصل عن عناصر بارزة ثلاثة كمنت في الخلفيّة: الأوّل، أن "هيصة الديمقراطيّة"، كما أسماها مثقّف فرنسيّ ناقد لها، جاءت بُعيد انهيار الاتّحاد السوفييتيّ وشيوعيّته، ومن ثمّ ضمور السرديّات الكبرى التي يميل البشر عادة إلى توهّم الحاجة إليها، طلباً منهم لتفسير يضبطون عليه معنى حياتهم وإيقاعها. وغنيّ عن القول إن هذه الوظيفة التي لعبتها الأديان طويلاً، ولا تزال، صارت الايديولوجيّات الكبرى، في زمن الحداثة، تشاطرها إيّاها. والثاني، أن الديمقراطيّة، بالعامل الشعبويّ الكامن فيها، والمستمدّ من توكيد إرادة الشعب، تجد، منذ الثورة الفرنسيّة، هوى واسع النطاق؛ لأنه يوحي للذين لا صوت لهم بأن أصواتهم ستغدو مسموعة، بل ستغدو، أكثر من هذا، صانعة المستقبل والتاريخ. والثالث، أن اليسار، لا جورج بوش وحده، لعب دوره البارز في تقديس الديمقراطيّة من خلال إداناته للانقلابات العسكريّة التي أطاحت أنظمة يساريّة، أو مناهضة للولايات المتّحدة. هكذا كانت الحال في التعاطي مع الجنرال فرانكو الذي قضى على الجمهوريّة الإسبانيّة في 1939، ومع الانقلابات التي عرفتها بلدان كغواتيمالا وإيران أواسط الخمسينيات، أو تشيلي في 1973. لكنّ ذلك لم يتعارض مع إقامة اليسار عدداً من الأنظمة لا تُجري انتخابات عامّة ولا توجد أحزاب مستقلّة في أيّ منها. وهذا الاحترام للديمقراطيّة، وفي معزل عن أسبابه واستخداماته، صحيح ومعقول جدّاً حين يؤخذ في حدود معقولة. إلاّ أن المشكلة تقيم في جعل الموضوع الديمقراطيّ إطلاقيّاً يتمرّد على كلّ شرط اجتماعيّ. فقد لوحظ، مثلاً، أن الديمقراطيّة كما مورست في عديد البلدان النامية، خلال العقدين الماضيّين، كانت أداة للردّ على الظلامة الاجتماعيّة التي أنزلها اقتصاد السوق المنفلت من كلّ عقال. هكذا صارت الكتل الشعبيّة المحرومة من القرار الاقتصاديّ تردّ بحقوق التصويت التي نالتها على ما يُنزله بها نهج الخصخصة وإلغاء التقديمات الاجتماعيّة للدولة. وليس هذا سيّئاً بذاته. لكنْ لمّا كانت هذه المجتمعات تنقسم في معظمها إلى جماعات إثنيّة أو دينيّة، بات الردّ الانتخابيّ للأكثريّات يهدّد بتجزئة البلد، تماماً كما كان يفعل القرار الاقتصاديّ المجحف. في الحالة الأولى، ينزل التهميش بأقليّة إثنيّة أو دينيّة فتندفع الى خارج المشاركة الوطنيّة، وأحياناً إلى خارج البلد، حاملة معها قدراتها في التعليم والرساميل والكفاءات. وفي الحالة الثانية، تُهمّش أكثريّات دينيّة أو إثنيّة فتوضع خارج حياة سياسيّة تغدو فئويّة واستئثاريّة. ولا ننسى، في هذا المعنى، أن قادة شعبويّين كإيفو موراليس وصلوا إلى الرئاسة بالانتخاب، وأن آخرين كروبرت موغابي كانوا بالانتخاب أيضاً يجدّدون رئاستهم المرّة بعد المرّة ويعطّلون الديمقراطيّة عمليّاً. بلغة أخرى، تصبح الديمقراطيّة، والحال هذه، عنصر تجزيء لوحدة الوطن والأمّة، فيما المطلوب منها، بالتعريف، توطيد هذه الوحدة وإرساؤها على قواعد أصلب. وأين يحصل مثل هذا؟ في المجتمعات التي تفتقر إلى ثقافة الشعب الواحد والأمّة الواحدة، كما تفتقر إلى التقليد السياسيّ والدستوريّ. وهذا إنّما يعني، بالضرورة، ربط العمل في سبيل الديمقراطيّة بالسعي إلى دمج الجماعات وتعليمها أن المكسب الديمقراطيّ ليس مجرّد حقّ انتخابيّ، بل هو أيضاً واجب حيال تلك الوحدة وحيال رعايتها. ويُخشى اليوم أن نكون أمام وضع سيّئ، بل أسوأ مما عهدنا قبلاً. ذاك أن الأزمة الاقتصاديّة التي تزداد عالميّة تنذر بتصاعد الشعبويّة التي تستفيد من كلّ لفظيّة التقديس للديمقراطيّة، أجاءت من اليمين البوشيّ أم من اليسار الماركسيّ و"العالمثالثيّ"، لتكيل ضرباتها للسياسة ولاحتمالات الديمقراطيّة. وإذا كان من المرجّح الاستخدام السخيّ، في ظروف كهذه، للقوميّة والدين وشتّى أشكال الهويّات، بقي أن الديمقراطيّ الفعليّ هو الذي يمضي في رفض تقديس الديمقراطيّة، مثلما رفض تقديس كلّ شيء آخر.