لم نتفاجأ نحن العرب عندما أعلن وزير المالية الياباني شويتشي ناكاجاوا استقالته من منصبه، لأنه ظهر في مؤتمر صحفي وهو مخمور، ولم يتمكن من الحديث بصورة سوية، وقبله كان انتحار وزير الزراعة الياباني "توشيكاتسو ماتسوكا"، بعد مواجهة انتقادات في فضائح مالية. والسلسلة تطول في احترام اليابانيين للرأي العام ومصلحة البلد مقدَّمة على المنصب الرسمي مهما كان. لو طبق الوزراء العرب هذه السياسة، كم وزيرا يستحق البقاء في منصبه؟ هذا هو الخلل الذي نعانيه في الإدارة العربية المعاصرة، فوزراء ومدراء للأسف الشديد آخر هم لهم في منصبهم القيام بمتطلبات هذا المنصب وخدمة مجتمعهم. من أخطر العادات التي أبتلي بها بعض المدراء في المجتمع العربي الكذب على العامة والخاصة. فهو يكذب على الموظفين في إدارته، ويكذب على المراجعين، وأخطر من هذا كله أنه يكذب على المسؤولين الذين وثقوا به وعينوه في منصب كان الظن أنه قادر على تحمله. دعوني أوضح لكم نماذج من كذب بعض المدراء. عندما يعلن عن مشروع للتطوير الإداري، ويجلب له خبراء من شرق الدنيا وغربها، ويتحمس المدير لهذا المشروع ويجند له أجهزة الإعلام المختلفة، ويطبل له ويزمر لهذا التطوير الهائل الذي سيقدم نموذجاً عالمياً يخدم الدولة ويضعها في مقام الدول المتقدمة، ويبدأ هذا المشروع المدعوم مالياً وإعلامياً، ويستبشر الناس به خيراً، كل التقارير المرفوعة لأولي الأمر حول هذا المشروع، تؤكد نجاحه المبدئي وتضمن تميزه الختامي، وتأتي الشواهد تلو الأخرى، كي تؤكد وتعزز صحة هذه المؤشرات، وتمر الشهور سراعاً، وتبدأ الاستقالات المرتبطة بهذا المشروع، ثم يختفي المشروع من أجندة المدير ومن سجل الإعلام الحافل. وبكل تواضع يعرف الناس أن هذا المشروع قد أثبت فشله، ربح فيه من ربح وخسر بسببه الكثير من الناس، وعندها ينتظر الناس موقف المدير الذي تبنى هذا المشروع، فلا يكاد يسمع حوله إلا همساً. هنا يطرح سؤال نفسه: ما مصير من هم على شاكلة هذا المدير الذي كذب على المسؤولين وعلى عامة الناس؟ هل لديهم الشجاعة اليابانية كي يستقيلوا من منصبهم؟ فإن لم تكن لديهم هذه الشجاعة، فهل لديهم الوطنية اللازمة كي يقروا بفشلهم ويتركوا المجال لغيرهم، أم أن المدراء العرب يؤمنون بقاعدة اكذب ثم اكذب واكذب حتى تكتب عند الناس صادقاً، لأنهم لايعرفون صدقك من كذبك. نموذج آخر لكذب المدراء يكمن في استقطاب الكفاءات المناسبة للمناصب القيادية في إداراتهم، فبعد دراسته للسير الذاتية للناس المؤسسين في شركاتهم وإداراتهم، يصلون إلى قرار مفاده أنه لايوجد بينهم من يستحق إدارة العمل، فيهمشون جانباً، ويتحولون لما يشبه البرزخ الوظيفي، فلا هم موظفون يستفاد منهم، ولا هم متقاعدون يبحثون عن حياة أفضل، ويؤتى بدماء جديدة، ولست هنا ضد وجود الدماء الجديدة في مؤسساتنا فهذه سنة الحياة، المصيبة تكمن في أن هؤلاء الذين يمثلون التجديد في المؤسسات، يتبين للناس بعد فترة أنهم دماء ملوثة، لاتزيد العمل إلا خبالاً، وفجأة كما تم تزويد المؤسسة بالدماء الجديدة تتسرب منها بكل احترام، ويؤتى بغيرهم... وهكذا تستمر عجلة التطوير في بعض الإدارات. ومرة أخرى ربح في البيع من ربح، وخسر في هذا السوق الكثير من الناس، السبب في تصوري أن هذا المدير لم يفكر لحظة تعيين القيادات الجديدة في مصلحة مؤسسته بقدر تفكيره في منصبه الذي لايستطيع تحمل مسؤولياته، ولكنه استخدم فلسفة واقعية الكذب كي يعيش. ولكن إلى متى؟ ففي مجتمعنا ولله الحمد اليوم آليات تستطيع الحكومة فحص كل مدير ومعرفة ولائه لوطنه وقدرته على إدارة مؤسسته، فالولاء ليس كلمات تُقال لكنه أفعال.