الشرق الأوسط موضوع للصراع الدولي، وليس طرفاً فيه؟ هذا ما قررناه في مقال سابق، وعلينا الآن أن نتبين الأمر من داخل الشرق الأوسط نفسه...
لنبدأ بالتذكير بالمعطيات التالية:
عندما كان "مركز العالم" هو دمشق ثم بغداد، في العصرين الأموي والعباسي من تاريخ الإسلام، كان اصطلاح "مشرق" ينسحب على المنطقة الممتدة من فارس الصين. بينما كان اصطلاح "مغرب" يشير إلى ما وراء مصر غربا. وبينما كان "المشرق" واحداً على صعيد الاصطلاح كان ثمة تمييز في "المغرب" بين مغرب أدنى (تونس) ومغرب أوسط (الجزائر)، ومغرب أقصى، المغرب حاليا.
وعندما انتقل مركز العالم إلى أوروبا تغير الوضع تماما، وذلك منذ انطلاق حركات "الاستكشافات الجغرافية" التي كانت تمهيداً للتوسع الاستعماري. فـ "الشرق" Orient كان يعني في القرنين السادس عشر والسابع عشر ليس فقط جهة شروق الشمس، بل أيضا "بلاد العجائب"، بلاد الكنوز والتوابل وكل ما هو عجيب غريب.. ولذيذ. وكان المشار إليه هنا خاصة هو الهند وما وراءها. هذا بالنسبة للمركز الأوروبي منظورا إليه من بريطانيا. أما الفرنسيون، فإضافة إلى اشتراكهم في هذا المنظور، كان لديهم منظورهم الخاص يتجلى في الكلمة التي أطلقوها على "الشرق" في أول الأمر وهي كلمة Levant وتعني "مطلع" (=جهة مطلع الشمس) وكان يقصد بها عندهم البلدان التي توجد شرقا بالنسبة لفرنسا، وخاصة منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط (لبنان). والكلمة التي كانت توضع كمقابل لهذا "المطلع" هي "أوروبا" فكان التقابل كما يلي: أوربا/لوفان Europe/Levant وذلك قبل أن تترسم كلمة Orient (شرق) بصفة نهاية عندما أصبح يشار بها إلى آسيا ودول البحر الأبيض المتوسط. ومن ثمة ترسم التقابل شرق/غرب Orient/ Occident.
هذا التغير على مستوى الاصطلاح في اللغات الأوروبية، خاصة منها الفرنسية والإنجليزية، يعكس حالة خاصة من الوعي بالهوية. فالوعي بالهوية، في "الغرب"، صار منذ ابتداء حركات التوسع الاستعماري يتنوع بتنوع الأطراف التي يتخذها مقابلا له وموضوعا. والشيء الذي يجب أن ننتبه إليه هو أن "الغرب" غير موحد. ذلك أنه يتنوع ليس فقط بالأطراف التي تقع خارجه (خارج الغرب) بل يتنوع أيضا وبالدرجة الأولى بتنوع المراكز داخله. فـ "الغرب" على عهد الإمبراطورية الفرنسية (نابليون) ليس هو الغرب على عهد الإمبراطورية البريطانية، ليس هو نفسه اليوم على عهد الاتحاد الأوروبي والإمبراطورية العولمية الأميركية التي وسعت من مفهوم الغرب ليصبح مرادفا لما يسمى اليوم بـ"المجتمع الدولي" و"دول التحالف"، تماما مثلما تعمل الآن على توسيع رقعة "الشرق الأوسط" ليصبح "الشرق الأوسط الكبير" ليكون كدرع لها ضد الاتحاد الأوروبي اليوم، وضد روسيا والصين غدا!
وكما يعكس هذا التنوع لمفهوم "الشرق الأوسط" على مستوى اللغة والاصطلاح، في "الغرب"، تنوعا مماثلا على مستوى الهوية، يعكس الشيء نفسه على مستوى "الشرق الأوسط" كموضوع للغرب، أقصد تنوع هوياته. لقد بدأ "فعل الغرب" في "الشرق الأوسط" بإطلاق هذا الاسم على أقطاره وشعوبه. الشيء الذي يعني ضم تلك الأقطار في كلية، مستقلة عن مكوناتها (إذ لا أحد فيها يقول : "أنا من الشرق الأوسط"). بعبارة أخرى: رد الكثرة فيها إلى وحدة مفروضة من خارج، وحدة منظور إليها من الغرب، أساسها مصلحة هذا المركز أو ذلك من مراكزه.
من هنا كانت هذه الوحدة غير مستقرة إلا على مستوى الاصطلاح، أما على مستوى المضمون فـ"الشرق الأوسط" متنوع بتنوع نوع المصلحة التي يمثلها بالنسبة لهذا الطرف أو ذاك من المراكز المهيمنة في الغرب. وهكذا: فلما كان التنافس وتناقض المصالح هما اللذان يحكمان العلاقات بين "مراكز الغرب"، وهذا هو أساس الصراع الدولي، فإن تأثير هذه العلاقات على كيانات "الشرق الأوسط" قد أصبح يحكم العلاقات الداخلية في دوله، والعلاقات البينية التي تقوم بينها.
وهكذا فالتأثير الذي مارسته فرنسا عسكريا واقتصاديا وثقافيا وحضاريا، ما كان منه بإرادة وعزم وما كان منه بالتبعية والتقليد، يختلف من قطر لآخر من أقطار الشرق الأوسط، وهو غير التأثير الذي مارسته بريطانيا أو إسبانيا أو إيطاليا... وعلى العموم فـ "الدول العظمى" هي التي شكلت الشرق الأوسط، على مستوى التسمية والكيانات والاقتصاد واللغة (الثانية) والثقافة والسلوكيات الحضارية. قد نقلت إليه وحدتها على صعيد الاسم وتنوعها واختلافاتها وصراعاتها على المستويات الأخرى. وأكثر من ذلك عملت "الدول العظمى" تلك على تأسيس العلاقات البينية في هذا "الشرق الأوسط" تأسيسا يجعل تلك العلاقات في توتر دائم. وهكذا فما من دولة في الشرق الأوسط إلا ولها "مشاكل حدود" مع جاراتها، حتى أصبحت كل دولة من دوله عدوة لجارتها المباشرة صديقة أو على الأقل مسالمة للتي بعدها!
هذا على المستوى السانكروني أو "الأفقي". أما على المستوى الدياكروني (العمودي)، الذي هو مجال الصراعات الداخلية (الاجتماعية، الاقتصادية، الإثنية، الثقافية، الخ)، فإن تأثير الغرب في الشرق، سواء