كشفت الخطط الأميركية التي وضعت قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر لغزو العراق عسكريا، وما تلا ذلك من قرارات أميركية، عن خلل عميق في العلاقة بين سياسات الدول وحقوق الشعوب.
ونعرف جميعا المراحل المعقدة التي مرت فيها خطة غزو العراق، بدءاً بعرض قضية أسلحة الدمار الشامل على مجلس الأمن، واستصدار قرار بتشكيل لجان للتفتيش في العراق بإشراف مباشر من مجلس الأمن. وانتهت عملية التفتيش بعدم العثور على أي سلاح للتدمير الشامل، ومع ذلك أصرت الولايات المتحدة الأميركية على استصدار قرار من مجلس الأمن يسمح لها بالغزو العسكري للعراق. ونعرف أن فرنسا وألمانيا وروسيا والصين ودولاً أخرى رفضت استصدار هذا القرار، ومع ذلك مضت الإدارة الأميركية في خطتها، وتجاهلت مجلس الأمن، وأهدرت الشرعية الدولية وغزت العراق عسكريا، واحتلته مع بريطانيا وبعض الدول "الكومبارس" التي تمثل ما يطلق عليه "قوات التحالف".
وحدث ما تنبأنا به في بداية العمليات العسكرية بالرغم من ظهور بوادر الانهيار العسكري العراقي، من أن الولايات المتحدة الأميركية قد تنجح في احتلال العراق، ولكنها ستقع حتما في المستنقع العراقي، كما سبق لها أن وقعت في المستنقع الفيتنامي، والذي خرجت منه مهزومة شر هزيمة على يد الشعب الفيتنامي البطل. ولكن تردد عدد من الكتاب العرب في قبول هذه النبوءة، على أساس أن النظام البعثي العراقي قد انهار كلية، وأن هناك استبعاداً لقيام انتفاضة عراقية منظمة ضد الولايات المتحدة. ولكن أثبتت الأحداث الأخيرة أن المقاومة العراقية - أيا كانت تنظيماتها واتجاهاتها الإيديولوجية - توجه كل يوم ضربات موجعة إلى القوات المسلحة الأميركية، إلى درجة استنجاد الولايات المتحدة بالدول العربية بل وبإيران، لكي تخفف الانتفاضة من وطأتها. وجاء القرار بسحب القوات المسلحة الأسبانية من العراق بعد تولي الوزارة الجديدة الحكم بعد سقوط أثنار، الذي ورط أسبانيا في هذه الحرب غير المشروعة، بمثابة لطمة ساحقة وجهت إلى الرئيس بوش ووزير دفاعه رامسفيلد، الذي خابت توقعاته وفشلت خططه في "احتلال هادئ" للعراق يكفل استعمار هذا البلد الغني بثرواته إلى الأبد!
وفي ضوء ذلك كله ينبغي إثارة السؤال الرئيسي: هل كان الرئيس بوش في قراره بغزو العراق عسكريا معبرا حقيقة عن المصلحة القومية الأميركية التي تعبر عن مصالح الشعب الأميركي، أم أنه كان قرارا تم استصداره بإرادة منفردة، ومن خلال خداع الكونجرس والرأي العام الأميركي ومجلس الأمن والرأي العام العالمي، تحقيقا لتصورات إيديولوجية متطرفة لمجموعة اليمين المحافظ الجديد، الذي يمثل تيار المسيحية الصهيونية، خدمة لأهداف إسرائيل، وتحقيقا لتصورات سياسية مريضة عن أهمية الهيمنة الأميركية الأبدية على العالم؟ لقد أثبتت لجان الاستماع في الكونجرس أن عملية خداع كبرى قد تمت لإثبات أن العراق به أسلحة دمار شامل، بل إن هناك وثائق قد زورت لإثبات ذلك.
وتطرح هذه الوقائع الصارخة شكوكاً حول مصداقية النظام السياسي الديمقراطي الأميركي. فهل صحيح أن الحكومة الأميركية في تحديدها للمصلحة القومية التي تملي قرارات الحرب والسلام، تعبر فعلاً عن حقوق الشعب الأميركي في الأمن، أم أنها في الواقع تعبر عن المصالح الضيقة لفئة محدودة من البشر، أتاحت لهم العملية السياسية المعقدة لاختيار الرئيس الأميركي أن يتربعوا على مقاعد السلطة ويعيثوا في العالم فسادا من بعد، باسم حق الولايات المتحدة الأميركية في الحفاظ على أمنها القومي، حتى ولو كان ذلك عن طريق الضربات الإجهاضية التي توجه إلى أية دولة تشم منها رائحة خطر على الولايات المتحدة الأميركية؟
والحقيقة أن ظهور الفجوة الواسعة بين سياسات الدول وحقوق الشعوب أصبح اليوم ظاهرة عالمية لا تنفرد بها الولايات المتحدة الأميركية. ذلك أن الاتجاه نفسه ظهر واضحا حين انحاز توني بلير رئيس وزراء بريطانيا منذ البداية للنزعة الانتقامية الأميركية، وأيد قرارها بغزو أفغانستان، ولكنه بالنسبة لغزو العراق أصبح شريكاً رئيسياً. ومارس في سبيل هذه الشراكة كل عمليات الخداع وتزوير الوثائق التي تثبت وجود أسلحة دمار شامل في العراق، مما هو محل تحقيق اليوم في البرلمان البريطاني، كما هو الحال في تحقيقات الكونجرس الأميركي. ويظهر بلير في منتهى التعصب والتطرف وذلك في تصريحاته الصحفية التي لا يتردد فيها عن موافقة الإدارة الأميركية على أي قرار تتخذه، حتى لو كان ضد الشرعية الدولية. والسؤال المطروح هنا شبيه بالسؤال الذي طرحناه بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية: هل قرار توني بلير بالاشتراك في الغزو العسكري الأميركي للعراق كان معبرا حقاً عن حق الشعوب البريطانية في الأمن، أم أنه كان تحقيقا لمصالح دائرة محدودة من النخبة السياسية البريطانية الحاكمة، التي أعلت من واقع مصالح بريطانيا المتشابكة مع الولايات المتحدة الأميركية على المصالح الحقيقية للشعوب البريطانية، والتي ستعاني الآن ومستقبلا من اشتداد الضربات الإرهابية ضد المؤسسات ف