ما يجري في المنطقة العربية لا يمكن أن يمر دون أن يلتفت إليه ولاة الأمر، فهو أمر لا يسرُّ الصديق وإن سرّ العدو! فنحن - كعرب- لا نريد للدائرة الحمراء أن تتوسع، وما يجري في المملكة العربية السعودية والأردن لا يسرنا. وقد يكون من المعيب والمُخجل أن نتغافل عنه... أو نواجهه بعنف مضاد. نحن - كعرب- درجنا على قمع الرأي، ونظرة الحكام إلى المحكومين كانت دوماً نظرة المتفضّل على الطالب، والقوي على الضعيف وصاحب الكرامة على "ربيب" الذل.
وكانت الأدبيات الحكومية على مر التاريخ تؤسس للحوار أو الأمر الأقوى الصادر من الحكومات، وتبني قواعدها الوضعية على أساس ظلم المواطن وإذلاله من أجل راتب الدولة أو التطبيب المجاني أو التعليم، وتلك حقوق أساسية من حقوق الإنسان، كما أن الثروة - التي تم اجتزاؤها على مدى أكثر من خمسين عاماً- هي ملك للشعوب، لكن القمع الشرس الذي مُورس طوال خمسين عاماً كان كفيلاً بقطع كل لسان يحاول أن يجهر بكلمة حق.
ونأتي إلى النقطة الثانية في هذا السياق المحزن وهو ما أسمته الصحف السعودية (الفكر الضال المنحرف)! بعد مطاردة قوات الأمن لإسلاميين متطرفين في السعودية خلال الأسبوع الماضي، حيث قُتل خمسةٌ من رجال الأمن، وذلك إثر الهجوم الانتحاري الذي استهدف مبنى حكومياً بوسط مدينة الرياض. وسؤالنا هنا، من علّم هؤلاء "المنحرفين" الفكر الضال، ومن احتضنهم؟ وما هي أسباب هذا "الجنوح" في تفكيرهم، وهل لهم مطالب يمكن النظر إليها بعين الاعتبار والحوار؟
وهل في خطبة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ عبدالرحمن السديس ما يمكن اعتباره تخلياً عن رجال دين أيدوا الهجمات التي روّعت الناس في السعودية؟ وهل يحق له اعتبارهم من المفسدين أو"المجاهيل" كما وصفهم؟
إن القتلى من الطرفين هم من أبناء البلد الواحد الذي نتمنى أن يسوده السلام والمودة على أساس تصالحي، وقراءة عاقلة للتاريخ والمستقبل! قد تكون هنالك أخطاء في الماضي، وكل حكم له ظروفه! لكن الأخطاء لا تصحح بالأخطاء! ولئن كان الحوار في السابق يأتي من طرف واحد، فإنه بعد الأحداث التي ألمّت بالعالم العربي منذ حوالى ثلاثة عشر عاماً، وسقوط أنظمة، وقيام أنظمة، و"استقواء" علاقات و"رخاوة" علاقات أخرى مع الولايات المتحدة، لابد وأن يلتفت ولاة الأمر إلى ما يدعم الوحدة الوطنية ويحقق المصلحة العليا في بلد عزيز علينا هو المملكة. ذلك أن الذين يقومون بتلك العمليات هم من "صُنع محلي". درسوا في جامعات سعودية، وأشرفت على تدريسهم وزارة المعارف، ووظفتهم وزارة الأوقاف أو ما شابهها من وزارة تتعلق بشؤون الدين أو الممارسات الإسلامية. فهل"التشدد" الذي ترعرع في حضن الدولة هو السبب الرئيسي في "انفلات" هؤلاء؟ وهل "الكبت" المُزمن الذي عششَّ في القلوب ولم يتم الالتفات إليه إلا مؤخراً هو السبب فيما يجري؟! إن ما دعا إليه إمام وخطيب المسجد الحرام حول (الوسطية)، لم يكن معمولاً به في الثقافة الدينية، على الأقل لما شهدته في المملكة - وكان التشدد على أوجه في جميع العبادات والممارسات اليومية لدى بعض أئمة الدين، وطلابهم الصغار الذين يجوبون الشوارع تحت مسمى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! والسؤال هنا: هل أثمرت هذه الثقافة في منع ليس المُنكر فقط، بل العنف والقتل؟! وهل كان الدين فعلاً سلاحاً لخلق الشخصية السوية العاقلة المؤمنة بحق الناس في الحياة، وإبعاد الأرواح البريئة من الإزهاق بهذه الطريقة البشعة؟
نحن نعتقد أن غياب الحوار والتحاور بين الأطراف المتحاربة اليوم هو أحد أهم الأسباب التي تُشعل الحرائق وتُسيل الدماء. يقول الشيخ السديس:"إنهم أبناؤنا بغوا علينا، وشبابنا خرجوا علينا وخرقوا سياج أمننا ووحدة بلادنا". وكان يقصد الذين قاموا بالتفجيرات.
وفي حقيقة الأمر إن اللجوء إلى العنف من أجل كسب المطالب أمر مرفوض في عالم التحضّر... ويبقى سبيل الحوار السلمي الناصح المُستَنصحْ الطريق الأمثل لحل جميع المشكلات العالقة بين المتحاورين. ولئن كان لمن يقومون بتلك التفجيرات- المُدانة من إنسان هذا العصر بكل مؤسساته وأفراده، وأنه أسلوب غير حضاري من أجل الحصول على المكاسب الحضارية- لئن كانت لهم مطالب وحقوق فلابد وأن تبحث على الطاولة وبروح الأخوة والمحبة! إن "بغي" الأبناء - كما سماهم الشيخ الكريم- لابد من بحثه بصورة تجردية وعقلانية. وهنا نعود إلى قضية رفض الآخر التي تزخر بها أدبياتنا! ثم إننا نعلم أن من قاموا بالتفجيرات من الإسلاميين، والشيخ يصفهم بـ"المفسدين"!
هنا أيضاً نحن بحاجة إلى حوار هادئ، لأنهم جزء من المنظومة الاجتماعية والدينية والثقافية، ومع اجترائهم على حقوق الآخرين، وهذا أيضاً مُدان، إلا أن سماع آرائهم قد يجنّب الآمنين مخاطر الانزلاق إلى مهاوي اليأس والفشل، فيلجأون إلى ما لجأوا إليه. وغني عن البيان مخاطر استفحال الظاهرة إلى مناطق أخرى من المملكة كما حدث يوم السبت الماضي في (ينبع) وسقوط ضحايا من الأجانب، وهنا أيضاً قضية مهمة! ما ذنب الأجانب الذين يعملون