لكلام شخص مثل فريدريك هيتز أهمية ووقع مؤثر على أذن السامع الذي تمطره الكتب والروايات والدراسات بسيل من الحكايا حول الجاسوسية والعمل الاستخباراتي، إذ يكفي أن هيتز شغل منصب المفتش العام لوكالة الاستخبارات المركزية سي آي إيه في عهد بوش الأب. وكتاب "اللعبة الكبرى" لهذا المخضرم الذي عمل أيضاً في وزارة الخارجية والدفاع والآن كمحاضر في الشؤون العامة والدولية لدى جامعة جونز هوبكنز، يقدم عرضاً شاملاً ومفصّلاً للتجسس في القرن العشرين كما بدا في خيال الروايات وفي تجارب ووقائع حياة الجواسيس الحقيقيين ليدلي هنا بشهادة يدرك صاحبها ما يقول.
وكان منشأ فكرة الكتاب من حلقة بحث أقيمت في جامعة برينستون وكانت معنية بعقد المقارنات بين روايات الجاسوسية والعمليات الاستخباراتية الواقعية. فهل الحقيقة أغرب من الخيال؟ يقول هيتز، الذي يؤكد أنه لم يعتبر نفسه جاسوساً ذات يوم، إنه كان ضابط استخبارات معنياً فقط بجمع المعلومات الاستخباراتية. لكن هيتز أجرى الحسابات وعقد المقارنات.
وقدم هيتز في هذا الكتاب أوجه التباين بين المعالجة الروائية لموضوع التجسس، والمؤامرات التي يجري حبكها في الواقع. تطرق كتاب "اللعبة الكبرى" في مختلف فصوله إلى إجراء دراسة معمّقة لكل جزء من أجزاء الحياة المهنية الحقيقية التي يعيشها الجواسيس، من مرحلة التجنيد (أو تجنيد الآخرين للعمل كجواسيس) إلى مرحلة التقاعد من هذا العمل أو الوقوع في يد الأعداء. وأجرى الكتاب تلك الدراسة متطرقاً إلى الكشف عن الآثار والنتائج السلبية التي تتجسد في اتخاذ الجاسوس أو العميل لقرارات مختلفة وربما متناقضة في أثناء سعيه إلى بناء شخصيته الخفية، كما قدّم مؤلفه الخبير شرحاً مفصلاً ومسلياً لكيفية قيام الجاسوس أو رجل الاستخبارات المتخفي بتدريب وتكييف غرائزه الفيزيولوجية والانفعالية العاطفية بحيث تتلاءم مع الشخصية الجديدة، وبحيث يشعر في شخصيته الجديدة بأنه تلقائي وطبيعي.
ولذلك أثرى هيتز كتابه هذا بعرض جملة من الشخصيات الحقيقية التي كانت معروفة جيداً في حقبة الحرب الباردة التي انخرط فيها السوفييت والأميركيون في مواجهة استخباراتية وجاسوسية حامية، ومن هؤلاء مثلاً كيم فيلبي البريطاني الشهير الذي تجسس لحساب السوفييت، ألدريك إيمس جاسوس وكالة الاستخبارات المركزية الذي انقلب على الوكالة وتحول إلى عميل مزدوج فأحدث الأضرار الأشد والأكبر بالمصالح الأميركية في الحرب الباردة، والضابط كلاريدج الذي عمل مع المؤلف لدى الـ"سي آي إيه"، والكولونيل السوفييتي أوليغ بينكوفسكي الضابط في الاستخبارات العسكرية السوفييتية. ويقول لنا هيتز إن هؤلاء أخفقوا في الاحتفاظ بانسجام وتناغم شخصياتهم وأفعالهم، في حين كان عميل الـ"إف بي آي" ريتشارد هانسن شديد الحذر في كل الحالات إلاّ عندما تكون هناك امرأة في سياق عمله.
وقد سجل الكتاب وقائع موثقة ومعروفة وشهادات مثيرة أدلى بها ضباط وعملاء الاستخبارات، ومن ذلك اعتراف المدير السابق لوكالة سي آي إيه روبرت.م غيتس وضابط آخر يدعى دوايت كلاريدج بأنهما "لا يعلمان بأمر عمليات ذات شأن لتجنيد الجواسيس السوفييت أثناء ممارستهما لمهماتهما الوظيفية". فهؤلاء كانوا جواسيس "متطوعين" أتوا من تلقاء أنفسهم. و"التطوع للعمل لصالح الأميركيين ليس بالأمر السهل". فبسبب وصول وكالة الـ"سي آي إيه" إلى مرحلة جنون الارتياب- كما يقول هيتز- حيال الدوائر الأمنية السوفييتية في أثناء الحرب الباردة، كانت الوكالة تفترض على نحو روتيني احتمال أن يكون أي موظف لديها عميلا مزدوجاًً وجاسوساً لدى الأعداء أيضاً، طبعاً السوفييت على وجه الخصوص.
ويذكر هيتز أن الكولونيل أوليغ بينكوفسكي الضابط في الاستخبارات العسكرية السوفييتية وزميله بيترو بوبوف قد ارتميا بكل طيش في أحضان الضباط البريطانيين والأميركيين المكلفين بتجنيد الجواسيس، وذلك لمدة أشهر وربما سنوات قبل أن "يسمح لهما الغرب بارتكاب الخيانة" بحق الدولة السوفييتية، فصارا يتناوبان على إفراغ خزائن ملفات "سرية للغاية" موجودة داخل مبنى وكالة الاستخبارات العسكرية السوفييتية. ويسرد هيتز وقائع انقلاب عميل الـ"سي آي إيه" ألدريك إيمس وعميل إف بي آي إلى عميلين للاستخبارات السوفييتية المتعطشة التي فتحت لهما ذراعيها في أول محاولة لهما للتقرب منها. والمثير للاهتمام هنا، على حد قول تشارلز ماك كاري- وهو مؤلف لعدد من روايات الجاسوسية التي أتى الكتاب على ذكر واحدة منها- أن الدوافع في حالة انقلاب الجاسوس إلى المعسكر المعادي كانت دوماً متشابهة، ومنها النرجسية و"الشعور بالقرف من النظام" والشعور "بالمرارة حيال ترقية رجال أقل شأناً وتجاهله هو"، إضافة إلى المال طبعاً.
قال جورج أورويل ذات يوم إن أفضل الكتب هي تلك التي تحكي لنا ما نعرفه. لكن هيتز يوحي فيما يتعلق بشخصية جيمس بوند السينمائية، بأن الغرب كان شديد التدقيق في مسألة توظيف الجنس كأداة لتجنيد العملاء وكان شديد الاهتمام بالتفاصيل حول ذلك، في حين "كا