لقد دلفنا إلى هذا المأزق العراقي، بعد أن حمّلنا أنفسنا وزر ما لا نحتمل من التزامات ومسؤوليات. وها نحن ننوي الخروج منه، ومن ورائنا حزمة من الالتزامات التي أسقطناها وتخلينا عنها. وبين هذه وتلك، فإننا لا نزال نحرص كل الحرص على تحمل المزيد والمزيد من الالتزامات المستقبلية اللاحقة! سؤال نثيره هنا بإلحاح: أي الالتزامات الجديدة يا ترى؟ فعقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، أفلحت إدارة بوش في تسديد ضربة قاضية لأفغانستان، التي كانت معقلا لتنظيم القاعدة الإرهابي، وزعيمه أسامة بن لادن. وأطحنا في تلك الحرب بنظام فظيع بمعنى الكلمة، وألحقنا ضررا لا يستهان به بالتنظيم، غير أننا لم نعثر على أسامة بن لادن بعد.
ومن هنا بدأت كافة مشكلاتنا. فقد يمّمت الإدارة الأميركية وجهها شطر العراق، قبل أن تنهي مهامها وأعمالها في أفغانستان. ونتيجة لذلك فقد تحولت مهمة البحث المحددة، والمعنية بحد ذاتها، عن عناصر تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن، إلى حرب عامة وفضفاضة على الإرهاب. ثم اتسعت هذه المهمة الأخيرة اتساعا كبيرا لدى إعلان الرئيس بوش عن هدف أكبر وأشمل، ألا وهو تحويل العالم بأسره إلى عالم حر وديمقراطي. أما في حال العراق، فإن هذا الأخير لم يكن جزءا من الإرهاب بالدرجة الأولى، بقدر ما كانت المخاوف من أن تكون للعراق مساهمة فيه، بسبب ما زعم من قدرات عسكرية وأسلحة دمار شامل كبيرة، نسبت إليه. لكن ما حدث بعد مرور عام كامل من الغزو الأميركي للعراق، أنه لم يعثر على أي من تلك الأسلحة المزعومة!
ذاك هو الخطأ الأول. أما الثاني فيتمثل في تجاوزنا للأمم المتحدة. يذكر أن مجلس الأمن الدولي كان قد ساند الولايات المتحدة في حربها المشروعة على أفغانستان، إلا أنه لم يفعل الشيء نفسه في حرب واشنطن على العراق. لحظتها كان الرئيس بوش قد أعلن عزمه على خوض الحرب منفردا. وما كان موقفا دوليا جماعيا ضد أفغانستان بالأمس، تحول إلى مجرد مبادرة أميركية فردية معزولة في العراق اليوم. صحيح أن الولايات المتحدة لا تزال تتمتع بدعم لم يتزعزع من بريطانيا. وقد خاطر رئيس الوزراء البريطاني توني بلير بمنصبه كي يبقى على مؤازرته للولايات المتحدة الأميركية. إلا أن هذه الأخيرة، عمدت إلى عزل حلفاء أساسيين أوروبيين لها من حربها على العراق، كما هو الحال بالنسبة لألمانيا وفرنسا. ومن فرط الأحادية التي لازمت الحرب الأخيرة على العراق، فقد اعترضت عليها حتى دول مثل المكسيك وتشيلي. أكثر من ذلك، أعلن الرئيس بوش أنه ليس في حاجة إلى تلقي أية نصائح بشأن حربه على العراق من قبل الأمم المتحدة، وقال إنها حرب أميركية، وإن من حق أميركا أن تديرها على النحو الذي تريده هي. وقد كانت لهذا الصلف ردود فعله، وتأثيره على اتساع رقعة النفور العالمي تجاه الولايات المتحدة، وتعميق عزلتها.
هنا نكون قد وصلنا إلى الخطأ الثالث، وهو إساءة تقدير الرأي العام العراقي. لقد أصابت إدارة بوش التقدير والتكهن، بسهولة عملية إسقاط الطاغية العراقي صدام حسين. غير أنها أخطأت في حساباتها لما سيلي تلك الخطوة. فقد كان التقدير هو أن الغالبية الساحقة من العراقيين، ستتهلل فرحا لتخليصها من نير طغيان وتسلط نظام صدام حسين. لكن ما لم تتوقعه الإدارة ،هو أن معظم العراقيين- وليسوا كلهم- يرغبون في أن يحزم الجنود الأميركيون أمتعتهم ويغادروا أراضي العراق، ما أن تنتهي مهمة إسقاط نظام القهر الذي كان يجثم على أنفاسهم وصدورهم. والواقع أن إسقاط ذلك النظام قد أوقع الولايات المتحدة الأميركية في فخ الإقامة الطويلة الممتدة في العراق، فيما يبدو على أرجح الظن.
فما أحدثته الحرب هو أنها قضت على قدر لا يستهان به من البنية التحتية للبلاد. ونتيجة لذلك، فإن سعة التوليد الكهربائي المتوفرة، لا تكفي لسد حاجة المواطنين من الطاقة. وفي عز حر الصيف الحارق، لا تتوفر وسائل تكييف الهواء التي تعين الناس على العيش في تلك الظروف الصعبة. وبالمثل فإن إمدادات المياه لم تكن مؤكدة بعد الحرب. وقتها كانت قد تبخرت الحكومة، ولم يعد هناك سوى الفراغ السياسي العريض. وبسبب نقص أجهزة الأمن، فقد ضربت الفوضى بأطنابها في البلاد، وسادت عمليات نهب وسلب واسعة، لم تستطع القوات الأميركية أن تفعل حيالها شيئا.
وفوق ذلك كله، فقد عمدت الإدارة إلى تعيين مجلس حكم كسيح وعاجز عن فعل شيء. ولن يتغير هذا الوضع، وتكون للعراقيين أجهزة حكمهم الفاعلة، إلا عقب إجراء انتخابات حرة ونزيهة بحق. لكن وتحت ضغوط القادة الدينيين العراقيين من جانب، والأمم المتحدة من جانب آخر، فقد وافقت الإدارة على فكرة التخلي عن السيادة في العراق، وتسليمها للمعراقيين بحلول الثلاثين من يونيو المقبل. - يلاحظ أن بوش قد بدأ يصغي للأمم المتحدة نوعا ما بعد أن أحس بوطأة ورطته هناك-. ولكن يبقى سؤال كبير ومهم: لمن ستسلم السلطة والسيادة؟ على العموم، فإن حكومة عراقية مؤقتة، يفترض أن تحل محل مجلس الحكم العراقي الحالي، كما يفترض أن يجري انتخاب جمعية تشريعية وطنية بحلو