انعقد ببيروت وعلى مدى ثلاثة أيامٍ مؤتمرٌ لتحديث الفكر العربي، وللإعلان عن قيام مؤسسةٍ تحمل هذا الاسم. وقد حضَرَت المؤتمر نخبةٌ من قُدامى المثقفين العرب ومعروفيهم، من اليساريين السابقين والحاليين، والقوميين المتحولين إلى يساريين، وأخيراً المتحولين إلى متحولين! ولستُ أُقَرِّرُ هذا كلَّه على سبيل التعيير أو الاستهجان، فكما لا تُعتبرُ اليساريةُ فخراً الآن، لا يعتبر خصومُها من الأُصوليين القوميين أو الإسلاميين مدعاةً للفخر أيضاً. بيد أنّ رموز الحداثة والتحديث هؤلاء كانوا من التقليدية بشكلٍ لا يُصدَّق. إذ إنهم وفَوا وفاءً مطلقاً لصورة خصومهم عنهم بحيث لم يتركوا زيادةً لمستزيد: تحدثوا عن "تحديثٍ" عَدَمي، وانقسموا على سبيل الزيادة في الراديكالية، وتراوحوا بين عقلانيات العقائديات الماركسية أو العلمانية أو هما معاً، وبين أُطروحات ما بعد الحداثة باعتبارها العاصم من العولمة طوراً أو أنها هي العولمةُ المحمودةُ طوراً آخر!
عندما دخلتُ إلى قاعة المؤتمر، كانت مجموعةٌ من اليساريين القُدامى والجُدُد (على طـريقة المحافظين القُدامى والجدد فعـلاً) تُهاجـمُ "المؤسِّسين" (عرفنا منهم محمد أركون ونصر حامد أبو زيد ثم الأستاذ الهوني رجل الأعمال الليبي الذي سمَّوه مدير الشؤون المالية، وسمَّوا المترجم المعروف الأستاذ جورج طرابيشي أميناً عاماً للمؤسسة الجديدة).
أما سببُ الهجوم فَعِلّتُهُ أنّ الأستاذ أركون تحدث طويلاً عن "اللوغوس" (أي الكلمة كما وردت في الإنجيل)، فأسرف في التنظير، وأنَّ نصر حامد أبو زيد ذكر الأصالة والمعاصرة، فأعطى التقاليد والإسلام بعض الوزن الذي لا يصحُّ، إذ لا توفيقَ بين "الأصولية" أو "الأصالية" والحداثة: فإمّا أن تكون علمانياً خالصاً (على نحوٍ لا يعرفُهُ غير هؤلاء الشباب الذين تجاوزوا جميعاً الستين!) أو أصولياً ظلامياً خالصاً. ومع ذلك، فقد عزَّيتُ نفسي بأنّ الفشل الذي نحـن فيه أَوجع بعض الإخوان فلا بأس بالتشدد العلماني على سبيل الموازنة. ثم إنّ الأصوليين أنفسهم لا يقصِّرون أبداً في شتم أسلاف هؤلاء، وشتم هؤلاء أيضاً منذ أكثر من أربعين عاماً! بيد أنَّ المؤتمر سار طَوالَ أيامه على نحوٍ حقيقٍ بالإدانة فعلاً، لجهة الصورة عن التاريخ الحديث للتجربة الثقافية العربية، ولجهة مفهوم أو مفاهيم الحداثة ، ولجهة الأُطروحات البديلة أو التي اعتُبرت كذلك.
لقد أذهلني فعلاً ذلك الاستعراضُ الشديد الخطأ والخَطَل للتجربة الثقافية والسياسية العربية. فقد صوَّر الإخوان الحاضرون للمؤتمر ذلك الماضي القريب بصورة سواد الرجعية والأصولية والتقليد وقوى الظلام واليمين (كما قال صادق جلال العظم)، في مواجهة إبداعيي التنوير والعقلانية. بل قالوا أو قال أكثرهم إنّ قوى الرجعية الفكرية كانت هي المتحالفة مع القوى السياسية السائدة في سائر أنحاء الوطن العربي. والذي يعرفُهُ كلُّ إنسانٍ عاقلٍ أو غير عاقل أنّ هؤلاء في شبابهم كانوا المسيطرين على الساحة الفكرية، وقد كان بعضهم بل أكثرهم بين أشدّ حلفاء الحاكمين في البلدان العربية الرئيسية، حماساً. وأعرفُ أنّ ثلاثةً من كبار الحاضرين للمؤتمر كانت وجهةُ نظرهم أواخر الستينيات أنّ الهزيمة علتُها أنّ "الاشتراكية العربية" ليست جذريةً بما فيه الكفاية بحيث تحطّم التقاليد البورجوازية المتآمرة تحطيماً كبيراً. وأرى أنَّ الحتميات الاشتراكية والعلمانية كانت في أساس ظهور الحتمية الإسلامية والأصولية. ومنذ الخمسينيات من القرن الماضي، كما هو معروف، يشكو العقلانيون والليبراليون والإسلاميون المعتدلون من سيطرة جماعة الحتميات الذين عملوا أبواقاً للضباط القوميين والاشتراكيين الذين سيطروا على الأُمور في البلدان العربية الرئيسية بالمشرق والمغرب. وما كنتُ لأرى مشكلةً في دفاع هؤلاء عن فشلهم بهذه الطريقة. فهم في الواقع يتبرأون من هذا الماضي الذي ظلوا أو ظل أكثرهم غارقاً فيه حتى الثمانينيات من القرن العشرين. بيد أنَّ المشكلة هي استخدامهم للتصور الآخر للتاريخ القـريب، لتبـرئة أنفسهم من الفشـل، ووضعه على ظهور الحكام والأُصوليين (الذين كانوا وقتها جميعاً في السجون أو على المشانق)، والعودة بالأُطروحات نفسها من أجل تحديثنا وعقلنتنا في مطالع القرن الحادي والعشرين بعد أن عجزوا عن ذلك طوال النصف الثاني من القرن المنقضي.
المشكلـة إذن في تصور البدائل، أو ما جرى الحـديث عنه باعتباره حداثة. انقسم المؤتمرون إلى قسمين غير متساويين من حيث الحجم. فالأكثرية تخلّت عن الجانب الأيديولوجي من اليسارية السابقة، وركّزت على العلمانية في الثقافة والديمقراطية في السياسة. وقد استعاد بعضٌ منهم تجربة العلمانيين العرب الأوائل، ومسألة الفصل بين الدين والدولة. وكانت حجتهم في ذلك كلّه الأجواء السائدة والتي تنشغل كما العالم كلّه بهاجس ووقائع الأصولية الإسلامية. وقد بلغ من توتر هؤلاء تجاه الإحيائية الإسلامية، أن رأوا تحالُفاً "غير مقدَّس" بين الاستبداد الديني والاستبداد السياسي، رغم