تبدو صور التعذيب الذي ارتكبه الأميركيون في سجن أبوغريب أقرب إلى الكوابيس والهلوسات التي تحفل بها روايات كافكا. وهي - في الوقت نفسه- تعبيرٌ قاسٍ ومعبر عن أحوال العراق كله في ظل الاحتلال. بل إن صور الوضع السياسي العبثي تبدو أهم وأكثر قسوة وألما بكثير. فالأميركيون ارتكبوا كل الأخطاء المعروفة في الكتب حول العلاقة الاستعمارية. وارتكب فرقاء الوضع السياسي في هذا البلد الرائع المروع أخطاءً كبيرة بدورهم. وقد تلاقت كل الأخطاء مرة واحدة في كتلة من النار يتناثر منها اللهب في كل اتجاه صانعا شعورا داهما بالفوضى واليأس حتى أن أحدا لم يعد يعرف كيف يمكن الخروج من الكهف الحالي الذي تمارس فيه أشد الممارسات بدائيةً.
وقبل افتضاح جرائم التعذيب البشع قال بيان لمجموعة الأزمات الدولية إنه:"مع كل بداية زائفة وخطة مجهَضة تبدو الخيارات الواقعية للانتقال السياسي المستقر والناجح وقد صارت أضيق وأقل جاذبية". وفي تعليقها على خطة الأخضر الإبراهيمي المبعوث الخاص للأمم المتحدة في العراق قالت:"إن القيام بالمهمة بصورة صحيحة هذه المرة مُلح وحيوي. إذ قد لا تبقى لدينا أية فرص أخرى".
ويضيف تقرير هذه المجموعة إلى خطة الأخضر الإبراهيمي عناصر أخرى. فإلى جانب إقامة حكومة تكنوقراطية محايدة سياسيا وجمعية استشارية تعمل بمثابة برلمان مؤقت تقترح المجموعة أن تبدأ الخطة بدون تغيير موعد ما يسمى بنقل السيادة إلى العراقيين بدعوة مؤتمر وطني موسع يختار الجمعية الاستشارية مع إنهاء تردد الأمم المتحدة في القيام بمسؤولياتها في العراق عبر قرار جديد من مجلس الأمن يمنحها المسؤولية السياسية عن الانتقال. ويتم وضع توزيع للسلطات أكثر حسما لصالح هذه المؤسسات العراقية وتكون للجمعية الاستشارية صلاحيات حقيقة بما في ذلك الاعتراض على أسماء الوزراء وقراراتهم أو سياساتهم. ويكون لهذه الهياكل العراقية دور كبير في المجال الأمني بحيث لا تترك سلطة القيام بأية عمليات عسكرية كبيرة بيد الأميركيين وحدهم. ويستكمل هذا السيناريو بإجراء الانتخابات العامة لانتخاب برلمان وحكومة عراقية تتمتع بالشرعية التمثيلية في يناير المقبل.
ويفترض واضعو هذا التصور أن مشاركة العراقيين بالدور الأكبر في المجالين السياسي والأمني ستقلل كثيرا من العنف المنفلت في العراق. وينبهنا هذا الافتراض إلى أحد أهم أوجه النقص في التصور الذي وضعته هذه المجموعة ويرجح أنه غائب أيضا في خطة الأخضر الإبراهيمي وهو عدم وضوح القضية الأساسية بالنسبة للغالبية من الشعب العراقي التي يهمها قبل كل شيء إنهاء الاحتلال الأميركي بأسرع صورة ممكنة. ويعني ذلك أن العنف لن يقل بصورة ملحوظة إلا إذا التزم الأميركيون أمام المجتمع الدولي الممثل بالأمم المتحدة بالانسحاب من العراق وعدم فرض أية اتفاقيات عسكرية أو أمنية على العراق أو العراقيين. وأن أية اتفاقيات من هذا النوع لا تكون لها أية مشروعية إلا إذا سحب الأميركيون قواتهم كلها فعلا من العراق ضمانا للاستقلال التام للإرادة الوطنية العراقية.
والواقع أن هذا لم يكن أفضل سيناريو للعراق منذ الغزو. فقد ارتكبت الأمم المتحدة خطأ كبيرا بالانسحاب المبكر من العراق بعد تفجير مكتبها واغتيال المبعوث السابق للأمين العام سيرجيو دي ميللو بل وقبل هذا الحدث. فقد ترددت الأمم المتحدة في القيام بواجبها في القيام بالمهام الأساسية للتحضير للانتخابات الضرورية لبناء دولة تمثيلية وهو ما كان يجب أن يتم منذ وقوع الاحتلال. ولا شك أن الولايات المتحدة تتحمل المسؤولية الأساسية عن هذا التأخير نظرا لرغبتها في الاستيلاء على كل السلطة الفعلية في العراق وتضييقها على الأمم المتحدة وخاصة أن القرار 1511 لم يفوض الأمم المتحدة بمسؤوليات محددة. ولكن الأمين العام كان بوسعه أن يبادر وأن يباشر جانبا من اختصاصاته وفقا للميثاق وليس فقط وفقا لهذا القرار أو غيره. ولم يكن بوسع الأميركيين اعتراضه. وبدلا من الاعتماد على الولايات المتحدة في توفير الأمن لموظفيها كان يمكن للأمين العام للأمم المتحدة أن يعتمد على العراقيين أنفسهم وهو ما كان ولا يزال يتوقف على قدرتها على إنشاء صلة مباشرة مع الشعب العراقي.
نقول ذلك لأن الفكرة الأساسية في كل السيناريوهات المطروحة بما في ذلك خطة الإبراهيمي هي أن الأمن شرط ضروري مطلق لعقد الانتخابات. ولكن تلك النظرية تعني منح من يقومون بالعنف المسلح في العراق نوعا من حق النقض على أية انتخابات. وحتى لو أن كل التدابير المثالية قد اتخذت على المستوى السياسي فسوف يستمر العنف في العراق بسبب أن بعض القوى الأساسية وخاصة القوى المخلصة لنظام صدام حسين ليس لها أدنى أمل في استرداد أو الحصول على السلطة في العراق سوى عن طريق العنف. ويعني ذلك أن الانتخابات قد لا تعقد أبداً.
والواقع أن الصيغة الصحيحة والصعبة في آن واحد هي أن عقد الانتخابات في العراق هو الطريق الوحيد لإنهاء العنف أو تقليصه. فالانتخابات تعني أن هناك سلطة شرعية لا يكفي العنف ولا ي