بينما تسلط الأضواء بالكامل على "حل الدولتين" و"وقف الاستيطان" وغير ذلك من بنود تسوية طال انتظارها دون جدوى أفرزت الآلة العنصرية الحاكمة في إسرائيل سلسلة خطيرة من الأفكار العنصرية البغيضة تتجه كلها صوب الفلسطينيين الصامدين على أراضيهم منذ نكبة 1948، والذين اصطلح على تسميتهم بـ"عرب 48" في محاولة مبكرة لطمس هويتهم، وإلحاقهم بغيرهم من العرب خارج فلسطين، حتى تتمكن إسرائيل من التخلص منهم بشكل أو بآخر. ووجه الخطورة في هذه الأفكار أنها ليست مجرد "آراء" يستنتج منها الطابع العنصري للدولة الإسرائيلية عامة ولحكومتها الحالية خاصة، وإنما هي مادة لمشروعات قوانين تتجه جميعها إلى الكنيست لإقرارها، ومن ثم تصبح ملزمة للفلسطينيين الذين صمدوا على أراضيهم على رغم قسوة نكبة ضياع الوطن في 1948. أما الفكرة الأولى فهي مشروع قانون أقرته اللجنة الوزارية التشريعية في الرابع والعشرين من الشهر الماضي، ويقضي بمنع فلسطينيي 1948 من إحياء ذكرى "النكبة"، ويعرض من يخالفه للسجن ثلاث سنوات، وهو مشروع وصفه أحد المعلقين في إسرائيل ذاتها بأنه "إرهاب فكري" متسائلا في تهكم "هل ستقوم السلطات الإسرائيلية بإرغام المواطنين العرب على الرقص والفرح في ذكرى نكبتهم؟" وقد فتح إقرار اللجنة الوزارية للتشريع في الحكومة الإسرائيلية المشروع السابق شهية المتطرفين، فطرح نواب حزب "إسرائيل بيتنا" على جدول أعمال الكنيست مشروع قانون آخر يشترط للحصول على المواطنة الإسرائيلية واستصدار بطاقة هوية إسرائيلية التوقيع على تصريح ولاء لإسرائيل "دولة يهودية وصهيونية وديمقراطية"، وبقبول الخدمة العسكرية والمدنية لدولة إسرائيل، وثمة فكرة ثالثة تتكامل عضوياًً مع سابقتيها، وهي أساس لمشروع قانون يفرض عقوبة السجن لمدة سنة على من ينشر دعوة ترفض وجود دولة إسرائيل، كدولة يهودية ديمقراطية، ذلك إذا كان مضمون النشر ينطوي على إمكانية معقولة لأن تؤدي الدعوة أو النشر إلى القيام بعمل من أعمال الكراهية أو التحقير أو عدم الولاء للدولة أو لسلطات الحكم فيها، وقد وافق الكنيست عليه في قراءة أولى بأغلبية 47 صوتاً ضد 34 صوتاًً وامتناع عضو واحد عن التصويت. تنصرف الفكرة الأولى إلى الماضي، فلو وضعت موضع التطبيق لكان معناها اقتلاع الشعب الفلسطيني من جذور هويته وماضيه القريب، أما الثانية فتنصرف إلى الحاضر بإعادتها تكييف وضع فلسطينيي 1948 باعتبارهم جزءاً من المشروع الصهيوني لا انتماءً خاصاً لهم ولا أمل مفترضاً لهم في تحقيق طموحاتهم القومية حيث هم، أما الثالثة والأخيرة فتنصرف إلى المستقبل، وتتجه إلى من يأتي بسلوك ينطوي على نشر دعوة من شأنها أن تؤدي إلى عمل من أعمال الكراهية أو التحقير أو عدم الولاء للدولة وسلطاتها الحاكمة. وغني عن الذكر ما تشي به هذه الفكرة من غموض كامل يضع الأساس دون شك لإساءة تطبيقها، والتنكيل بفلسطينيي 1948، ناهيك عن توفير ذريعة قانونية لمبادلتهم بمستوطني الضفة الغربية، بمعنى أن تتخلى إسرائيل عنهم مقابل ضم الكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة لنصبح إزاء واحد من أشد المشروعات قبحاً في التاريخ العنصري. لم أندهش كثيراً لإفراز آلة الحكم العنصرية في إسرائيل هذه الأفكار، فدولة الكيان الصهيوني في الأصل عنصرية، وهي كذلك بصفة أخص في ظل حكومة يمينية متطرفة كحكومة نتانياهو الحالية، وخبرة التاريخ المعاصر تظهر أن الكيانات الاستعمارية والعنصرية تعاني من تطرف ظاهر في مراحلها الأخيرة، فهي تحاول أن "تستأصل" حركات التحرر الوطني، إن لم يكن الشعوب ذاتها، بمزيج من أدوات الإكراه وإعمال قوانين ونظم استعمارية، ويرتبط هذا بمواقف بالغة التطرف ضد مطالب تلك الحركات، وليس ببعيد تاريخياً أن فرنسا كانت تشترط للسماح للجزائريين بممارسة حقوقهم السياسية حمل الجنسية الفرنسية، أو التصريح الذي أدلى به سالازار ديكتاتور البرتغال في فبراير 1968 وفحواه أن "برغلة" (نسبة إلى البرتغال) كل سكان غينيا البرتغالية (غينيا بيساو بعد الاستقلال) هو الضمان لاستمرار الوجود البرتغالي في أفريقيا، وهو منطق قيادات حزب "إسرائيل بيتنا" الذي يريد تحويل الفلسطينيين بالقوة إلى مواطنين "منتمين" إلى دولة إسرائيل. ليس في موقف آلة الحكم العنصرية في إسرائيل ما يدهش إذن، لكن مبعث الدهشة الحقيقية هو ردود الأفعال العربية، فقد لقيت هذه الإفرازات العنصرية الحد الأدنى من الاهتمام حتى أن المرء لا يستطيع أن يكون صورة كاملة عما جرى من خلال وسائل الإعلام العربية. صحيح أن ثمة أولويات تشغلها حالياً كالحديث عما ينوي أوباما أن يفعله بإسرائيل، أو ما هو بسبيله إلى قوله في خطابه المرتقب بعد أيام قليلة في القاهرة، لكن موضوعنا لا يقل خطورة من منظور مستقبل الصراع العربي-الإسرائيلي. كذلك لا أذكر أنني قرأت تصريحاً رسمياً عربياً واحداً بخصوص الموضوع، ناهيك عن أن يكون حاداً، وقد يكون التقصير نابعاً من درجة إحاطتي بكل ما تغطيه وسائل الإعلام العربية أو ما يدور في أروقة السياسة الرسمية العربية، لكنني أزعم أن النافذة التي أطل منها على الإعلام والسياسة في الوطن العربي رحبة بما يكفي لتقديم مؤشرات على درجة الاهتمام العربي بتلك التطورات. الاستثناء الوحيد الذي يرد على ضآلة الاهتمام العربي على النحو السابق هو موقف فلسطينيي 1948 أنفسهم الذين تحدث زعماؤهم عن "وقاحة إسرائيلية" تجاوزت كل الحدود و"حضيض جديد لعنصرية النظام في إسرائيل"، وأنه "لم تنشأ بعد القوة التي بإمكانها أن تمنعنا من إحياء ذكرى نكبة شعبنا، لا كتاب القوانين الإسرائيلي برمته، ولا التهديد بالعقوبات وغيرها"، وأن الجماهير الفلسطينية داخل إسرائيل "لن تخضع للقمع وستكون ردة فعلها مضاعفةُ مشاركتها لإحياء ذكرى النكبة". ومن المحتمل أن تسقط هذه القوانين ولو إلى حين، كما حدث بالنسبة لمشروع قانون الولاء والانتماء الذي أسقطته اللجنة التشريعية الوزارية يوم الأحد الماضي، أو يسقط ما تبقى منه بحكم للمحكمة العليا لإسرائيل أو بضغط خارجي، غير أن المرء في ظل المناخ الراهن لا يمكنه الجزم بأن هذا سيمثل نهاية المطاف، وخاصة أنه طالما أن إسرائيل تصور نفسها على أنها دولة طبيعية "حررت أراضيها" و"أعادت شعبها" إلى هذه الأرض فإن الضغوط الخارجية قد لا تكون بالقوة التي يتصورها البعض بالنظر إلى أنه لا توجد دولة بمقدورها أن تتسامح في قضية ولاء مواطنيها، لكن المشكلة أن الولاء وفقاً للمقاييس العنصرية الواردة في الأفكار الخطيرة السابقة لا ينص على الاعتراف بإسرائيل كدولة فقط وإنما كدولة "يهودية صهيونية"، وهو ما يناقض أبجديات الإلحاح على "التنوع" في عالم اليوم. لن يحرك العرب ساكناً بطبيعة الحال مع أن تداعيات تلك التطورات جد خطيرة عليهم، ومع أن هذا الموضوع من الموضوعات التي يمكن استخدام الأوراق الدبلوماسية فيها على الأقل لتسليط الأضواء على الجريمة الإسرائيلية الجديدة، فماذا لو أعلن الساعون إلى تسوية مع إسرائيل أن استمرار مشاركتهم في هذا السعي سيتوقف على إسقاط هذه المواقف العنصرية، ولن يخسر هؤلاء شيئاً على أية حال لأن التسوية المنشودة لن تجيء، ناهيك عن أن تجيء في ظل حكومة يمينية عنصرية متطرفة، وسوف "نفاجأ" بأن التحركات تأتي من الخارج كالمنظمات الحقوقية في أوروبا والولايات المتحدة وباقي أنحاء العالم ومن بعض الدوائر السياسية الرسمية هنا وهناك، ومن داخل إسرائيل ذاتها، وبعدها قد تستيقظ ردود الأفعال العربية دون إرادة سياسية كافية لتفعيلها. ومع ذلك فلو حدث أن كل الأفكار العنصرية السابقة أو بعضها ترجم إلى قوانين عنصرية ملزمة ستخوض إسرائيل مواجهة جديدة تذكرنا بتجربة العصيان المدني الممتد ضد النظام العنصري السابق في جنوب أفريقيا، وخبرة يوم الأرض في فلسطين، والانتفاضة الفلسطينية السلمية في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، ذلك أن ما لا يعرفه كهنة العنصرية في إسرائيل أن التطرف الاستعماري لا يزيد الشعوب إلا إصراراً على إرادة التحرير، وأنه يكون بحد ذاته علامة من علامات قرب نهاية المشروع الاستعماري.