ما هي الآثار الطويلة الأمد للركود العالمي الحالي على موضوعات مثل العولمة، والرأسمالية، والنزعة الاستهلاكية؟ في تقديرى أنه إذا ما انتهى هذا الركود خلال عام من الآن، واستُؤنِفت التجارة، حتى بخطوات أكثر بطئاً مما كانت عليه، فإن المتفائلين سوف ينظرون إلى هذا الركود على أنه كان مجرد وعكة عابرة -حتى وإن كانت مؤلمة للغاية- في مسيرة التطور والرخاء الثابتة والصاعدة للأعلى والتي انطلقت في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، واستمرت حتى ما قبل الأزمة الأخيرة بزمن قصير. المتشائمون سوف يعارضون حتماً هذه القراءة للركود الحالي، وسيصرون على القول بأنه نداء إيقاظ لقادة العالم ينبههم إلى أن الرأسمالية غير المنظمة قد كشفت في تلك الأزمة عن بذور سقوطها، وأنه لولا التدخل الحكومي الصارم من جانب الدول الرأسمالية الكبرى في العالم، لكانت البشرية جميعاً قد تعرضت لأزمة أشد سوءاً وأكثر شراسة من الأزمة الحالية. وسوف يصر هؤلاء أيضاً على الفكرة القائلة بأنه حتى إذا ما تَمََّكَّن الاقتصاد العالمي من مواصلة نموه التصاعدي مجدداً، فإن التأثير النفسي للركود الحالي سوف يظل محسوساً لسنوات طويلة قادمة. والسجال الذي يضع فكرة الرأسمالية الطليقة، أي غير المقيدة بقيود تنظيمية تحدد حركتها، وهو ما يطلق عليه أيضاً "النموذج الأنجلوسكسوني"، في مواجهة الفكرة الداعية لوضع مزيد من القيود التنظيمية على البنوك، والمؤسسات المالية، وهو النموذج الذي تفضله أوروبا القارية (الدول الواقعة في البر الأوروبي) والدول الآسيوية... سوف يستمر، حتى وإن كانت كافة الدلائل تثبت أن المدرسة الثانية هي التي خرجت من السجال أقوى نفوذاً، وهو ما سيؤثر بطبيعة الحال على السياسات المستقبلية للبنوك الأوروبية في مختلف أنحاء العالم. وفي حالة الولايات المتحدة، نجد أن من بين الُمَغيّبات الرئيسية التي لا يمكن التكهن بها حالياً، ذلك المتعلق بتأثير الركود الحالي على الأفراد الأميركيين، واستعدادهم لاستئناف أنماط استهلاكهم السابقة إذا ما تحسن الاقتصاد واسترد عافيته. فمن المعروف أن الإنفاق الاستهلاكي الأميركي لم يساعد على ازدهار الاقتصاد الأميركي وعلى بقائه مزدهراً فحسب، وإنما ساهم أيضا في ازدهار اقتصاد الدول الرئيسية المصدرة للولايات المتحدة، وخصوصاً في منطقة شرق آسيا؛ مثل اليابان وتايوان والصين، وهي دول عانت جميعها فيما بعد من انتكاسات بسبب انكماش السوق الأميركية. وفي الوقت الراهن تعاني الموانئ الرئيسية في اليابان، ومختلف بلدان شرق آسيا من ركود الحركة، ولا تُستثنى من ذلك الوضع موانئ سنغافورة التي تعد الأكفأ على مستوى العالم قاطبة، والتي شهدت هي الأخرى هبوطاً حاداً في نشاطها. يعني ذلك أن الجميع تقريباً يعولون الآن على رغبة المستهلكين الأميركيين في استئناف نمط استهلاكهم السابق عندما يتعافى الاقتصاد، حتى تدب الحركة مجدداً في شرايين الاقتصاد العالمي. المشكلة هنا تكمن في أن هذه الرغبة تأتي في وقت تفرض فيه البنوك والمؤسسات المصرفية الكبرى التي تصدر بطاقات الائتمان، قواعد وإجراءات منظِّمة أشد صرامة مما كان معمولا به في السابق، على من يرغب في الحصول على قروض منها، وذلك في محاولة منها لتلافي ظاهرة العجز عن سداد القروض في مواعيدها، والتي كانت سبباً في انفجار الأزمة الاقتصادية، ولا يزال تأثيرها محسوساً على سوق الائتمان في الوقت الراهن. وما لم تصبح التسهيلات الائتمانية متاحة مرة أخرى، فإن المستهلكين الأميركيين لن يتمكنوا من العودة إلى أنماطهم الاستهلاكية السابقة، والتي كانت تساعد على استمرار ليونة حركة مفاصل الاقتصاد، إنْ في الولايات المتحدة أو في غيرها من الدول التي ترتبط معها بروابط اقتصادية وثيقة في مختلف أنحاء المعمورة. ليس معنى ذلك أن المستهلكين الأميركيين سوف يتوقفون عن الشراء، إذا لم تتح لهم القروض بالمعدلات السابقة، أو بمعدلات قريبة منها، فالحقيقة هي أنهم سيستمرون في الشراء بالطبع، لكنهم سيتجهون إلى شراء المنتجات والبضائع الرخيصة. ولعل هذه الظاهرة الملاحظة حالياً على نطاق واسع هي التي ساعدت على استمرار مؤسسات تجارية كبرى مثل "وول مارت" في تحقيق الأرباح في الوقت الذي شهدت مؤسسات أخرى تركز على البضائع الفاخرة الباهظة الثمن مثل مؤسسة "ساكس فيفث أفنيو" و"نايمان ماركوس"، هبوطاً كبيراً في المبيعات والأرباح. والأميركيون الذين عاشوا سنوات الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي، والذين بلغوا سناً متقدمة الآن بالتأكيد، يوجهون في الوقت الراهن النصائح لأحفادهم وأحفاد أحفادهم حول فوائد السلوك المقتصد، والحاجة إلى ادخار جزء من الدخل لمواجهة تقلبات الدهر. وإذا ما استمع هؤلاء الأحفاد وأحفاد الأحفاد لتلك النصيحة، فمن الحتمي في مثل هذه الحالة أن يشهد الاقتصاد نمواً بطيئاً في السنوات القادمة. وسيؤدي هذا بالطبع إلى انخفاض في أسعار الطاقة، كما سيعني أنه لن تكون هناك حوافز كافية لتحقيق تغيير جذري في الطريقة التي تستهلك بها أميركا الطاقة. أما على المدى الطويل، فمن المتوقع أن تتمكن أميركا الأكثر انطواءً على نفسها من توحيد جهودها، إذا ما استثمرت بطريقة حكيمة في مشاريع البنية الأساسية والتقنيات الجديدة. وإذا ما أخذنا حجم الاقتصاد الأميركي في الحسبان، فإن ذلك سوف يشجع على القول إن الولايات المتحدة أكثر جاهزية، وقدرة على العيش، في عالم يميل إلى أن يصبح أكثر انعزالا على الدوام مقارنة بأي دولة أخرى في العالم. بيد أن ذلك سوف تكون له تأثيرات عالمية بعيدة الأمد قد تترتب عليها تداعيات لا تقل كارثية عن تلك التي حدثت في ثلاثينيات القرن الماضي عندما اتجهت أميركا إلى الانعزالية. ففي ذلك الوقت كان الأميركيون يهدفون من وراء هذا الانعزال إلى البعد عن مشكلات العالم فيما وراء المحيطين الأطلسي والهادي، لكن ما حدث هو أنه قد تم جرها مرة أخرى إلى ذلك العالم الذي كانت تهرب منه رغماً عنها، وذلك بعد صعود النظم الفاشية في أوروبا وآسيا كنتيجة مباشرة من نتائج الكساد الكبير، وهي النظم التي زجت بالعالم في أكبر حرب شهدها خلال تاريخه، أي الحرب العالمية الثانية.