بالنسبة لهؤلاء الذين علقوا آمالا عريضة على جنوب أفريقيا باعتبارها المنارة الوحيدة المضيئة وسط الظلام الدامس المخيم على أفريقيا، أو الذين رأوا فيها البلد الذي انبعث من رماد الآبارتايد ليكون نموذجاً يحتذى به في العالم ومثالا للتعددية السياسية والديمقراطية القائمة على التنوع العرقي، عليهم أن يراجعوا حساباتهم بعد الصدمة التي لابد أنهم سيصابون بها بعد قراءة الكتاب الذي نعرضه اليوم لمؤلفه "أندرو فينشتاين"، وعنوانه "ما بعد الحزب: الفساد، والمؤتمر الوطني الأفريقي ومستقبل جنوب أفريقيا الغامض"، ويكشف فيه إحدى أكبر صفقات الأسلحة التي شهدتها البلاد وما شابها من فساد تورط فيه مسؤولون ووزراء ينتمون إلى الحزب العتيد الذي قاد البلاد إلى التحرر بعد سنوات من القمع والتمييز العنصري. والقصة بدأت في شهر أغسطس 2001 عندما أعلن مؤلف الكتاب، وهو ناشط قديم مناهض للآبارتايد وينحدر من أسرة يهودية فرت من معسكرات النازية، استقالته من منصبه كبرلماني ينتمي إلى حزب "المؤتمر الوطني الأفريقي"، احتجاجاً على الضغوط التي تعرض لها والعراقيل الكثيرة التي واجهته كعضو لجنة المالية في البرلمان عند اكتشافه لفضيحة كبيرة أراد قياديو الحزب تغطيتها بكل السبل حتى ولو وصل الأمر إلى التهديد وشراء الذمم. فقد استطاع "فينشتاين" استناداً إلى مبادئه التي اكتسبها أثناء نضاله في صفوف الحزب ضد نظام الفصل العنصري وإيمانه بحتمية التحرر والديمقراطية، الكشف عن رشاوى تقدر بملايين الجنيهات الإسترلينية تلقاها وزراء ومسؤولون من شركات أسلحة بريطانية وألمانية وفرنسية لتسهيل إجراء صفقات في إطار مساعي إعادة التسليح التي خصصت لها جنوبافريقيا 5.5 مليار جنيه إسترليني بعد انهيار نظام الفصل العنصري. هذا التوجه الذي أجمع عليه قادة جنوب أفريقيا ورموز الحزب العتيد بإعادة تسليح البلاد بعد سنوات من الصراع الداخلي، ما كان له أن يلفت الانتباه ويثير الجدل لولا التجاوزات التي شابته والفساد الذي رافق العملية وما بدا للكاتب أنه خيانة للمبادئ التي ناضل من أجلها الحزب وصعد على أساسها إلى السلطة. فقد عبر المؤلف عن مرارته قائلا: "لقد أرغمت على الاختيار بين الولاء لهذا الحزب المميز، وبين مسؤوليتي الدستورية تجاه هذا البلد لأنه في هذه اللحظة بدا لي أن الخيارين لا يلتقيان، وبالنسبة لي كان واضحاً أن الحزب قد انتهى". وبعد الضغوط الكبيرة التي تعرض لها المؤلف لإغلاق الملف وطي صفحة التحقيق والعزلة التي واجهها من قبل رفاقه في الحزب، قرر أخيراً مغادرة البلاد ليستقر في لندن مع زوجته وأبنائه، لكن حتى وهو بعيد عن بلده لم يفقد الأمل وراح يجمع خيوط الفضيحة لينسجها من بريطانيا في كتاب أراد له كشف الوجه الحقيقي للفساد في جنوب أفريقيا وإماطة اللثام عن المتورطين فيه. وليس الكاتب وحده من أشار إلى الفساد الذي بات ينخر المؤسسة السياسة في جنوب أفريقيا ويهدد بانهيار النموذج الناصع والنظيف الذي روجته عن نفسها، بل سبق للقس الحائز على جائزة نوبل للسلام، ديزمون توتو، أن ندد بفضيحة صفقة الأسلحة التي كشفها الكاتب عندما صرح مؤخراً بأن الحزب "أضاع نفسه". فقد بدأت تتزايد شكوك الكاتب بوجود شبكة واسعة من الفساد تلف السياسيين والمسؤولين في حزب "المؤتمر الوطني" عندما فازت الشركة البريطانية لصناعة طائرات التدريب العسكرية "Bae" بصفقة في عهد وزير الدفاع الراحل "جو موديس" بدل الشركة الإيطالية "إيروماتشي" التي قدمت عرضاً أقل بنصف السعر المقترح من قبل الشركة البريطانية، فضلا عن تفضيل القادة العسكريين في الجيش للشركة الإيطالية. وعندما استدعي الكاتب بعد كشفه للفضيحة للاجتماع بوزير المالية "تريفور مانويل"، أشار هذا الأخير على المؤلف بنسيان الموضوع قائلا: "ربما هناك بعض القذارة في هذه الصفقة، لكن لن يكتشفها أحد، فقط دع الأمور تمشي". غير أنه وبعيداً عن نصيحة الوزير، انكب "فينشتاين" على مواصلة التحقيق لكشف تفاصيل الصفقة للرأي العام، وكيف يلجأ بعض المسؤولين الحكوميين إلى استغلال مناصبهم الحساسة لتحقيق مصالح شخصية على حساب المصلحة العليا للبلاد، ولو كان الأمر يتعلق ببلدان أفريقية مجاورة، يقول الكاتب، دأب سياسيوها على الفساد، لما كلف نفسه عناء البحث والتدقيق، لكنه يتعلق بحزب بنى مصداقيته وأقام شرعيته على محاربة الاستغلال وتقاسم السلطة السياسية. ومن الأشياء التي كشفها الكاتب في تحرياته، التسريبات التي جاءت من مكتب مكافحة الغش البريطاني وجهاز الأمن في جنوب أفريقيا المنحل "سكوربيونز"، تحقيق السلطات البريطانية في مائة مليون جنيه إسترليني من الرشاوى دفعتها شركة الأسلحة البريطانية لمسؤولين بارزين في جنوب أفريقيا. وقد تعدى الأمر السلطات البريطانية إلى نظيرتها السويسرية التي تجري تحقيقاً آخر حول تقديم شركة "تيسنكروب" الألمانية رشاوى إلى مسؤولين جنوب أفريقيين لمنحها صفقة تزويد القوات المسلحة بسفن حربية من صناعتها. ولا يتردد الكاتب في الإشارة إلى اسم الرئيس زوما باعتباره متورطاً في الصفقة المشبوهة عندما كان قيادياً كبيراً في الحزب، محذراً من مستقبل قاتم ينتظر البلاد تحت رئاسته. زهير الكساب -------- الكتاب: ما بعد الحزب: الفساد، والمؤتمر الوطني الأفريقي ومستقبل جنوب أفريقيا الغامض المؤلف: أندرو فينشتاين الناشر: فيرسو تاريخ النشر: 2009