يقول العارفون بتاريخ بينالي البندقية للفنون، الأقدم في العالم والمتأسس سنة 1806، إن فلسطين كانت قد مُنحت موقعاً في المكان الرئيسي للبينالي، في منطقة جارديني جنوب شرق المدينة، في ثلاثينيات القرن الماضي. وعندما قامت دولة إسرائيل سنة 1948 واحتلت فلسطين أرضاً، احتلتها اسماً أيضاً فأخذت موقع فلسطين في البينالي. والمتجول في الموقع الرئيسي يرى "بافاليون" إسرائيل مجاوراً لـ"بافاليون" الولايات المتحدة. وقد ابتسم صديقي الكتالوني ألبرتو، الزائر السنوي للبينالي، وتساءل ساخراً: "أتعجب لماذا هذه الجيرة بين البلدين، وفيما إن كانت محض مصادفة". فإسرائيل التي أرادت أن تحتل كل ما له علاقة بفلسطين احتلت أيضاً الموجات الإذاعية التي كانت قبل 1948 قد خُصصت لفلسطين، وأصبحت تالياً موجات إسرائيلية! لكن هذه السنة عادت فلسطين إلى البندقية. الفنانة إيميلي جاسر قدمت أكثر الأفكار جسارة وطموحاً. سبحت في تاريخ مياه المدينة وقنواتها وعادت إلى القرون التي كانت فيها البندقية إحدى نقاط التواصل المتوسطي بين أوروبا والعرب. وقد كتبت إيميلي مساهمة غنية في الكتاب المرافق للعرض الفلسطيني الذي حررته مشرفة العرض وراعيته الأهم سلوى مقدادي، قالت فيها إن التجار العرب عرفوا البندقية لعقود طويلة، وتركوا فيها بصماتهم: لغة، ونقوشاً، وعمارة، وصناعة. والبندقية بدورها تركت بصماتها على المشرق، فقد كانت إحدى محطات الحجيج المسيحي القادم من أوروبا إلى القدس. فقد ازدهرت فيها صناعة السفن التي كانت تنقل الذاهبين إلى البلاد المقدسة. وفي البندقية أيضاً تطورت مهارة طباعة الكتب، وفيها حُفظت كتب ابن رشد وابن سينا، وطبع أول كتاب باللغة العربية سنة 1514 وهو كتاب الساعات. كما أن أول مصحف شريف مطبوع بالوسائل الميكانيكية كان في البندقية في سنة 1538. أما مشروع إيميلي الذي تطلق عليه اسم "ستازيوني"، أو المحطة، فيقوم على إحياء الإرث الثقافي والتواصلي بين البندقية والعرب عن طريق ترجمة محطات أحد أهم خطوط المواصلات المائية في المدينة، وهو الخط الذي يعبر القناة الأطول والأهم في المدينة، التي تتلوّى وتحضن أجزاءها على شكل حرف S. وعند كل محطة تتوقف القوارب، أو الباصات المائية، ليستقلها الركاب أو لينزلوا منها، تماماً مثل محطات الباصات. وتحمل هذه المحطات أسماءً مكتوبة بأحرف إيطالية كبيرة، ومعظمها له مدلول تاريخي. وتريد إيميلي أن تترجم أسماء هذه المحطات إلى العربية وتكتب الاسم العربي إلى جانب الاسم الإيطالي، لتخلق حالة تواصلية دائمة بين المدينة والإرث العربي فيها. ومن ضمن هذه المحطات "دار الصناعة"، و"سوق ريتاليو"، و"القديس زكريا"، و"بيت الذهب". وحتى الآن لم توافق البلدية على فكرة إيميلي جاسر، لكن إن وافقت فستكون البندقية المدينة الأولى في أوروبا التي تحمل محطات مواصلاتها أسماء عربية، وكأن طريق الحرير التاريخي يتجدد حداثياً، بين آسيا وقلب أوروبا، وهو الطريق الذي يُقال إن البندقية كانت إحدى محطاته أيضاً. كما قدم خليل رباح فكرة بينالي رواق 3، التي ترتكز على إحياء جغرافيا خمسين قرية فلسطينية، في الفترة الواقعة بين أول يونيو وآخر أكتوبر هذا العام. والفكرة عمل إبداعي آخر. أما تيسير بتنجي من غزة فقد قدم لوحة جميلة جداً وغنية بالخيال تعتمد على استيحاء مكانة زهر "الحنون" في الثقافة الشعبية الفلسطينية. وهنا نشاهد فراغاً مكعباً كبيراً على شكل غرفة بيضاء أرضيتها مفروشة بكثافة بما يشبه الزهرة الوردية الحمراء. وعندما نقترب أكثر نكتشف أن أمامنا قشوراً دائرية مكورة لأقلام رصاص يغلب على لونها الإحمرار، فنتخيل فوراً أولاد المدارس ينهمكون في "بري أقلامهم الرصاصية" للقيام بواجباتهم المدرسية. وتتماهى براءة زهر الحنون وبراءة أولاد وبنات المدارس عبر الرمز المزدوج: قشور أقلام الرصاص والزهرة المحبوبة، ويمتد ذلك التماهي مع بياض جدران المكعب. ولكن في الواجهة المباشرة للرائي وبعد ارتواء العين بالحنون والبياض نصطدم بمشهد لوحة فوتوغرافية لغرفة كالحة، أرضيتها ملطخة بغبار متراكم أسود، وعلى الجانبين بعض الأخشاب التي تتكئ على جدران الغرفة بلا مبالاة. أيها انفلت من الثاني: الحنون تمرد على سواد الغبار، أم تراها غرفة الغبار تعيد انتشاء الخيال إلى بشاعة الواقع؟ هل جاء الولد الذي برى كل أقلام الرصاص من تلك الغرفة؟ هل يحلم؟ نغادر لوحة تيسير محملين بتلك الأسئلة وندلف إلى ما هو في جوارها. هنا ندخل غرفة محكمة الإغلاق، حالكة السواد، مبطنة الجدران، ليس فيها إلا كوة في السقف تقود إلى ضوء العالم الخارجي. وهذه الغرفة القفص لا يريد أحد أن يمكث فيها طويلا حيث تشعر بأنك في زنزانة انفرادية، وهي فكرة ساندي هلال من بيت لحم وألسندرو بيتي من إيطاليا، وعنوانها "عارض رام الله" (Ramallah Syndrom). هنا تكثيف لأسئلة رام الله: أهي واحة حرية؟ ملتجأ الفلسطينيين المغتربين؟ نتاج "أوسلو" التقسيمي وتجسيد له؟ قفص صغير لحريات مُطاردة؟ أم تحدٍّ لكل الحواجز العسكرية التي تحيط بها، وفيها يقاوم الناس نظام الاحتلال بالإصرار على العيش والإقامة؟ لوحات جواد المالحي البانورامية عن مخيم شعفاط في القدس والتي صورها من زوايا مدهشة، أهمها مأخوذة من تلال المستوطنة المطلة على المخيم، ثم من داخل المخيم المكتظ نفسه، سكبت في خيال الزوار جرعة مرارة الواقع الذي يحياه ملايين اللاجئين الفلسطينيين. وإلى جواره أعاد شادي حبيب الله التحليق إلى ذرى خيالية أخرى: التوتر الدائم بين ما هو طبيعي وما هو صناعي، أو تصنيع الطبيعي وتطبيع الصناعي، حيث تصبح الروح طريدة ذلك التوتر وتبحث عن تعريفها في زمن الإنهاك المتواصل. نظلم كل تلك الإبداعات في عجالة عابرة، لكن لنا أن نقول: لو تمتع سياسو فلسطين بنصف ما لدى فنانيها ومبدعيها من العمق والخيال، كما شهد بينالي البندقية، لكانت شموس ساطعة قد أشرقت في بلادنا منذ زمن طويل. شكرا لهم جميعاً.