في الرابع عشر من يونيو 1989، كنت أعمل في مكتب وكالة "الأسوشيتد بريس" في بكين. وكنت حينها قد أنهيت لتوي إعداد تقرير صحفي عن إعادة افتتاح السفارة الأميركية في العاصمة الصينية بكين. ومع بدايات بزوغ شمس ذلك اليوم وتسلل أشعتها البطيء إلى مكتبي، رن جرس الهاتف. وما أن رفعت السماعة حتى سمعت صوتاً يقول: هنا الشرطة المسؤولة عن إقامة الأجانب في الصين. وسألني صوت ذكوري عبر السماعة: هل أنت السيد بان أيوين؟ فأجبت نعم، ملاحظاً أنه استخدم اسمي الصيني. فرد عليّ قائلا: مطلوب حضورك فوراً إلى مكتبنا. ثم أغلق الخط الهاتفي. وبعد ثلاثة أيام من تلك المكالمة، وجدت نفسي في طائرة متجهة إلى هونج كونج، بعد أن تم طردي رسمياً من الصين. فماذا كان جرمي؟ كان مقالة كتبتها عن مجزرة ساحة تيانامين! ومنذ شهر أبريل من ذلك العام، حيث بدأت المظاهرات الطلابية للمرة الأولى، كنت قد أمضيت ليالي عديدة في ذلك الميدان الذي جرت فيه المجزرة. بل كنت قد أكثرت من زيارة الطلاب الناشطين في غرفهم، إلى جانب التجوال المحموم في المدينة، محاولا رصد التسلسل الزمني للأحداث التي كانت تتشكل حينئذ. وفي ليلة الثالث من يونيو كنت في الضواحي الغربية للعاصمة، حين فتح جنود "جيش التحرير الشعبي" النيران على الطلاب المتظاهرين في ساحة تيانامين. وفي الساعات الأولى من صباح اليوم التالي، كنت مع بقية الطلاب المحتجين في قلب الساحة، وقد ضيق الجيش عليهم الخناق. وبعد 20 عاماً على تلك الأحداث، ظل السؤال الذي يحيرني ويشغلني دائماً ليس هو كم عدد الطلاب الذين قتلوا في تلك الأحداث؟ وإنما كيف تمكن الحزب الشيوعي الصيني من تجاوز الأحداث والصعود بمستوى أقوى مما كان عليه وقتها؟ في عام 1989 الذي وقعت فيه الأحداث، تنبأ عدد من الكتاب والمعلقين الغربيين بدنو انهيار الحزب الحاكم. ومن أشهر هؤلاء وصف الكاتب ديفيد شوفايزبرج -من يونايتد برس إنترناشونال- لمأزق الحزب بقوله: "قدم في السلطة وأخرى فوق قشرة الموز". ومن ناحيتي أضفت تصوراتي الشبيهة لما يمكن أن ينتهي إليه الحزب الشيوعي الصيني. وبالطبع يسهل على المرء القول إن النمو الثنائي الرقمي الذي ظل يحققه الاقتصاد الصيني منذ بدايات التسعينيات، هو السبب وراء بقاء الحزب واستمراره في السلطة. ثم هناك زيارة الزعيم دينج خياو بنج التي قام بها إلى "شينزن" في عام 1992. فقد فتحت تلك الزيارة الباب أمام استئناف الإصلاحات الاقتصادية القائمة على مفاهيم اقتصاد السوق الحر، إلى جانب فتحها لطريق تبني استراتيجية للنمو تقوم على التصدير بالأساس. وقد أثمرت تلك التحولات فائضاً تجارياً هائلا وتدفقاً كبيراً لرؤوس الأموال، إضافة إلى تأسيس ما يعرف بـ"عقد دينج الاجتماعي" مع الشعب الصيني. ويتلخص ذلك العقد في فتح طريق الثراء أمام كافة أفراد المجتمع الصيني، ولكن بعيداً عن اللعب بنار السلطة الحارقة. غير أن الجانب الاقتصادي لا يمثل في حقيقة الأمر سوى عنصر واحد فحسب ضمن عناصر أخرى تفسر استمرار بقاء الحزب الحاكم في السلطة، رغم بشاعة المجزرة التي ارتكبتها قواته المسلحة بحق المظاهرات السلمية التي قادها الطلاب الناشطون من أجل الحريات. ولعل الجانب الأهم من المال والاقتصاد يتمثل في إدراك الحزب الحاكم لأهمية التغيير. فبدلا من أن يقمع تطلعات التغيير -مثلما فعل في ساحة تيانامين عام 1989- شعر الحزب بضرورة قيادته لعملية التغيير بعد تلك الأحداث. وبالتالي تحولت "مواكبة العصر" إلى شعار أساسي يرفعه الحزب ويسعى لترجمته إلى واقع عملي. ففي الريف، حيث تعيش أغلبية سكانية قوامها 1.3 مليار نسمة، شجع الحزب سياسات تحديث الريف وإشاعة نمط حياة البلدات بدلا من القرى، وكذلك تطوير النشاط الاستثماري الصغير في القرى، بما فيه إقامة المصانع في المناطق الريفية. وقد ساعدت هذه المصانع على استقطاب ملايين الأيدي العاملة في الريف، ما أدى إلى تحوله إلى قوة رافعة للنمو الاقتصادي هناك. كما يلاحظ أن هذا التحول ساهم في توسيع المناطق الحضرية حتى في الريف. وترافقت هذه التغييرات مع حدوث هجرات جماعية واسعة لسكان الريف. أما في المدن، فقد دشن الحزب الحاكم مجموعة من الإصلاحات الجاذبة للطبقة الوسطى بصفة خاصة. وأهم ما فيها تبني سياسات إسكانية جديدة تسمح للأسر بشراء منزلها الخاص. وبالنتيجة فقد ارتفع معدل شراء الشقق السكنية من نسبة 17 في المئة من العائلات إلى نسبة 80 في المئة خلال العقدين الماضيين. والأهم أن سياسات الإصلاح السكني تلك أدت إلى تغييرات اجتماعية كبيرة، أبرزها نشوء مجتمع الملكية الخاصة التي لا تقتصر على ملكية المنازل والشقق السكنية وحدها، بل تمتد لامتلاك السيارات والاستثمارات الصغيرة وغيرها. ومن أهم الدروس التي تعلمها الحزب الحاكم من مجزرة ساحة تيانامين، تغيير سياساته في استخدام الأمن: فإن أردت البقاء في السلطة، عليك تفادي إراقة الدماء وقتل المحتجين السلميين. وبذلك يمكن القول ختاماً إن الحزب الحاكم نفسه تغير كثيراً جداً خلال العقدين الماضيين. جون بومفريت ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي، عمل مديراً سابقاً لمكتب صحيفة "واشنطن بوست" في الصين ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"