في زمن الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة تهتم بالدول، وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي، بينما كان الإرهاب يأتي في الترتيب الثاني على قائمة أولوياتها. ويبين كتاب "استخبارات لعصر الإرهاب" لمؤلفه "جريجوري إف. تريفرتون"، وهو مدير "مركز الأخطار والأمن العالمي" التابع لمؤسسة "راند" الأميركية، أن الأولويات قد تغيرت عما كانت عليه في زمن الحرب الباردة، فأصبح الإرهاب يأتي على رأس قائمة أولوياتها. ويحتوى الكتاب على مقدمة، وثمانية فصول. ويرى المؤلف أنه رغم ذلك التغير في الأولويات الأمنية، فإن جوانب كثيرة من المجتمع الاستخباراتي اليوم هي في الحقيقة من مخلفات عصر الحرب الباردة، ولم تعد متناسبة مع متطلبات العصر الراهن. فخلال الحرب الباردة، كان من السهل على المجتمع الاستخباراتي تحديد الأهداف التي يحتمل أن يقدم العدو على ضربها، أما في أيامنا هذه، ومع تغير نوعية وتعدد تلك الأهداف، فإن المهمة قد غدت أكثر صعوبة بما لا يقاس. فالاهداف التي تقوم أجهزة الاستخبارات بتعقبها والممتثلة في الإرهابيين وشبكاتهم وقواعدهم، هي أهداف مراوغة للغاية، وعصية على التحديد، وبعيدة المنال، بل يكاد القضاء عليها يصل لحدود الاستحالة. ويقول المؤلف إن جسامة التحدي الذي يمثله الإرهاب، يرجع إلى حقيقة أن الدول لها عنوان وحدود معروفة، ومؤسسات بيروقراطية تقوم على النظام التراتبي، وأهداف حساسة ليس لها حصر، يمكن للإرهاب الإنتقاء منها كما يشاء، في حين أن الإرهاب ليس له عنوان محدد، وليس معروفاً على وجه الدقة؛ بنيته التنظيمية، أو طريقة عمله، أو نوعية ومواقع الأهداف التي ينوي ضربها. فأي معلومات خاصة بذلك لا تقوم بالكامل على معطيات ملموسة وإنما تحتوي على قدر كبير من الاحتمالية، مما يعني أنه لا يمكن الاستناد عليها بشكل كامل في معرفة مسائل مثل: هيكلية الإرهاب، وآليات عمله، وتوقيتات عملياته. فالإرهاب عادة هو الذي يحدد أهدافه، والتي قد تكون بينها أهداف لا تخطر على بال الاستخبارات، أو في أحسن الافتراضات يكون احتمال ضربها محدوداً في تقديرهم. والعدو الإرهابي هو كذلك الذي يحدد نوعية السلاح المستخدم في التنفيذ، وقد يبتكر أسلحة غير مألوفة... فمن كان يتصور مثلا أن الإرهابيين الذين نفذوا هجمات الحادي عشر من سبتمبر سيحولون طائرات مدنية إلى سلاح قادر على إسقاط برجي مركز التجارة في وقت وجيز، دون أن تتمكن الاستخبارات الأميركية، بما لديها من خبرات وإمكانيات هائلة، من اكتشاف ذلك مبكراً. من ناحية أخرى نجد أن الفارق بين طبيعة الدولة وطبيعة الإرهاب يمثل ضغطاً هائلا على أجهزة الاستخبارات، وعلى أجهزة فرض القانون في الداخل الأميركي، ومن أهمها مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف. بي. آي)، كما يمثل ضغطاً على الأجهزة العاملة في المجال الخارجي، وعلى رأسها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي. آي. إيه). وجسامة الخطر الإرهابي وتوزعه على مساحة واسعة، تفرض على ذينك الجهازين تعاوناً تاماً، وأن يتم ذلك التعاون بطرائق جديدة مبتكرة، تختلف عن تلك العتيقة التي يسهل على العدو الإرهابي اكتشافها؛ مثل رجال الاستخبارات الذين يعملون تحت الصفة الدبلوماسية في السفارات التابعة للولايات المتحدة في الخارج. وفي إطار مواجهتها للإرهاب عادة ما تجد أجهزة الاستخبارات نفسها غارقة في بحر هائل من المعلومات والتكهنات والإحتمالات التي لا حدود لها، بما يؤثر على قدرتها على وضع خطط شاملة لمواجهتها. ويضاف لذلك أن عنصر عدم اليقين المرتبط بالإرهاب، لا يجعل هناك بديلا أمام تلك الأجهزة، سوى توسيع دائرة الاشتباه، وهو ما يؤدي إلى زيادة العبء الواقع عليها، وقد يؤدي أحياناً إلى تعقيدات إجرائية متعددة. وعدم اليقين هذا هو الذي يفرض على رجال الأمن والاستخبارات البقاء على أهبة الاستعداد لسنوات، حتى لو لم تقع أي عملية إرهابية. وعدد رجال الأمن الداخلي العاملين في الولايات المتحدة لا يقل، حسب المؤلف، عن 700 ألف رجل، ولكي يتم تحويلهم جميعاً إلى عيون وآذان في المعركة ضد الإرهاب، من الضروري في رأيه ابتكار طرائق جديدة، ليس فقط لجمع المعلومات، وإنما لتحليلها أيضاً، كما يتحتم تأسيس منظومات وهيكليات جديدة مترابطة ومتشابكة تضم كافة جهزة الاستخبارات، مع وضع كافة الاحتمالات والتوقعات الممكنة، وتحديد أساليب المواجهة في جميع الأوقات. ويقوم المؤلف، مستعيناً بما له من معرفة وخبرة بشؤون الإرهاب، بتسليط الضوء على التغير الذي حدث في طرائق جمع المعلومات وتحليلها، سواء في الولايات المتحدة أو خارجها، ومعالجة العديد من الموضوعات ذات الأهمية في مواجهة الإرهاب، وعلى وجه الخصوص الموضوعات التنظيمية والعملياتية التي يواجهها مجتمع الاستخبارات الأميركي. كما يحاول الإجابة على الأسئلة الفلسفية والسياسية التي يطرحها المحللون والنقاد والمهتمون بالعمل الاستخباري، مما يجعل من كتابه هذا واحداً من أفضل الكتب التي تناولت موضوع الاستخبارات في عصر الإرهاب من حيث الشمول والعمق. سعيد كامل الكتاب: استخبارات لعصر الإرهاب المؤلف: جريجوري إف. تريفرتون الناشر: كامبردج يونيفرستي برس تاريخ النشر: 2009