ابتلينا في العالم العربي ببعض المحللين الذين يحكمون بازدواجية غريبة، كل ذلك من منطلق عدائهم المرير للغرب وأميركا. ولعل أقرب وأحدث مثال على ذلك هو موقف هؤلاء من قضية البرنامج النووي الكوري الشمالي وتهديدات نظام "الزعيم الغالي" كيم جونج إيل لجاراته. فمن جهة يكرر هؤلاء ليلا ونهاراً انحيازهم للديمقراطية والتعددية، بل ويتباكون على حقوق الإنسان ويطالبون بمحاكمة كل من ينتهكها. لكنهم من جهة أخرى يساندون نظاماً كنظام هذا الرجل، الذي ضرب أكثر الأمثلة في التاريخ وضوحاً على استهتاره بكل تلك القيم السامية من خلال إدارة دولته بقبضة حديدية، بل وعزلها عن العالم وفرض المجاعة والتخلف عليها لصالح بناء قوة عسكرية مهابة يبتز بها الغرب وحلفاءه. في عام 1994 وقعت حكومة بيونج يانج وإدارة كلينتون مذكرة تفاهم قضت بأن تجمد الأولى طموحاتها النووية وتفتح أبوابها أمام آليات التحقق من ذلك، في مقابل حصولها على دعم أميركي ودولي لإنقاذ اقتصادها المنهار وتزويدها بحاجتها من الطاقة. وقتها وصفت هذه الاتفاقية بأنها الخطوة الأولى على طريق إنهاء نصف قرن من العداء المرير بين الطرفين وتطبيع علاقاتهما الثنائية، وبأنها المدخل إلى إحلال السلام الدائم والشامل في شبه الجزيرة الكورية، وربما توحيد الكوريتين بالطرق السلمية. لكن بيونج يانج، خلافاً لما كان متوقعاً، راحت تواصل ألاعيبها السابقة في صورة استعراض قوتها والتحرش بجاراتها وتهريب الأسلحة إلى الخارج والاستمرار في خططها النووية، ومقابلة الخطوات السلمية من جانب سيول بالبرود. وتفسيرا لهذه السياسات، قيل إن نظام كيم جونج إيل الحديدي، شعر بأنه لم يحصل من الاتفاق مع الأميركيين على كل ما كان يطمح إليه، ومن ضمنه ضمانات بعدم المس به مستقبلاً، فعاد إلى المشاغبة من أجل ابتزاز المجتمع الدولي. ورغم هذه السياسات الكورية الشمالية، ظلت إدارة كلينتون صابرة، معولة على إمكانية تغيير مواقف بيونج يانج من خلال سيول التي راحت بعيد اتفاقية أكتوبر، تضخ المساعدات والرشاوى لإقناع جارتها بفوائد السلام والانفتاح والتخلي عن الستالينية. لكن بوصول جورج بوش الابن وطاقمه "الجمهوري" إلى البيت الأبيض، صارت واشنطن أكثر حزما تجاه بيونج يانج، وراحت تتهم الأخيرة علناً بأنها نظام لا يحترم تعهداته، ولا يمكن الوثوق به، وبالتالي لا جدوى من الدخول معه في صفقات ومساومات. وكان هذا إنذاراً بسقوط ما أتفق عليه والعودة مجدداً إلى المربع الأول. ثم جاءت أحداث سبتمبر لتقلب كل المعادلات رأساً على عقب، إذ صارت أولويات واشنطن، هي حماية نفسها ومصالحها من الأنظمة ذات الطبيعة الإرهابية والمالكة لأسلحة الدمار الشامل والمستعدة انطلاقاً من عدائها للأميركيين، لنقل هذه الأسلحة أو تكنولوجياتها إلى تنظيمات إرهابية معادية. ومن هنا حلت مكان سياسة الاحتواء الأميركية السابقة سياسة مطاردة الحركات الإرهابية في طول العالم وعرضه وسحقها، وفي الوقت نفسه إسقاط الأنظمة المشاغبة التي قد تتطاول على المصالح الأميركية أو توفر لحركات الإرهاب دعماً أو ملاذاً . وكنتيجة لهذه السياسة، ظهر ما عرف بمصطلح "محور الشر"، الذي ضم النظام الكوري الشمالي، ليس لأنه يمتلك أدوات الشر وإمكانياته فحسب، وإنما أيضا لاستمراره في تبني سياسات ومناهج تربوية قائمة على تلقين أجيالها كراهية كل ما يمت بصلة لأميركا وشعبها ونظامها وحضارتها. وفي أعقاب ما حدث لنظام "طالبان" في أفغانستان ونظام صدام حسين في العراق، شعرت بيونج يانج بأن الأميركيين جادون، وأنه لن يمر وقت طويل إلا ويصلها الدور. هنا لجأ كيم جونج إيل المعروف بحماقاته وعدم اكتراثه إلا بديمومة نظامه على حساب آلام شعبه وفقرهم وتخلفهم وعزلتهم عما يجري حولهم من ثورات معرفية، إلى سياسة ترهيب الأميركيين، وذلك على أمل أن تقتنع واشنطن بان إزالة نظامه ذات أكلاف عالية، وبالتالي فإن عليها إعادة حساباتها. وانطلاقاً من هذه السياسة أعلنت بيونج يانج علناً وصراحة في عام 2006 عن نوويتها، وأنها باتت بالفعل تملك الأسلحة النووية القادرة ليس على ضرب حليفات واشنطن في الجوار قواعدها العسكرية في كوريا الجنوبية وتايوان واليابان، وإنما القادرة أيضا على الوصول إلى العمق الأميركي. وبطبيعة الحال، لم يثبت من مصادر مستقلة صحة هذا الزعم، لكن ما ثبت هو أن بيونج يانج لديها الخطط والإمكانيات اللازمة لدخول النادي النووي، ناهيك عن امتلاكها فعلا للصواريخ بعيدة المدى القادرة على حمل رؤوس نووية، وإن لم تعرف مدى دقة وكفاءة تلك الصواريخ. وبذهاب إدارة بوش الابن وعودة "الديمقراطيين" إلى البيت الأبيض، خيل للزعيم الغالي أن ضعف الرئيس اوباما وتعهداته بتغيير صورة بلاده عالميا، واستعداده للتفاوض حول الملفات الساخنة الموروثة من عهد بوش يجعله قادراً على العودة مرة أخرى إلى أساليب اللف والدوران وصور المماحكات التي مارسها أثناء فترة ولاية كلينتون! وهكذا رأينا في الأسابيع الأخيرة عودة قوية إلى طرح ملف بيونج يانج النووي في كواليس الدول الكبرى. وتخطئ بيونج يانج كثيراً لو اعتقدت أنها سوف تستطيع تركيع الأميركيين أو تغيير سياساتهم نحوها. ويبدو أن إعلان "الزعيم الغالي" عن نووية بلاده ما هو إلا استعارة مشوهة للطريقة التي تصرفت بها بكين مع واشنطن في الستينيات. فالأخيرة كانت تعتمد في الخمسينيات و الستينيات سياسة إسقاط النظام الشيوعي الصيني بالقوة انطلاقا من تايوان، لكن هذه السياسة تبدلت بمجرد كشف بكين عن قدراتها النووية في عام 1964، وحلت محلها سياسة القبول بالأمر الواقع مع محاولة محاصرة نظام ماو تسي تونج وتضييق الخناق عليه إلى أن جاء هنري كيسنجر بدبلوماسية البينج بونج، والتي أسفرت عن تطبيع العلاقات بينهما وتعاونهما رغم التباين الكبير في أيديولوجيتهما. وما لا يدركه ساسة بيونج يانج أن كوريا الشمالية ليست الصين، لا من جهة الإمكانيات ولا من جهة العمق أو التحالفات أو الوزن الدولي. هذا ناهيك أن تلك الواقعة حدثت في زمن مختلف، وفي ظل معطيات غائبة اليوم تماما، هي معطيات الحرب الباردة. إننا اليوم في عالم جديد صارت لواشنطن فيه الكلمة الأولى، وصار حتى منافسوها الكبار ينسقون معها، بينما تعيش بيونج يانج في عزلة خانقة لا يخفف منها سوى علاقتها ببكين. لكن بكين أيضاً تعارض حماقاتها بتحويل شبه الجزيرة الكورية إلى حلبة للسباق النووي والأزمات، وتمنعها مصالحها المتشعبة مع واشنطن في الدخول في مواجهة مع الأخيرة من أجل سواد عيون نظام بائس. هذا على الرغم من بعض التقارير التي أجمعت على أن بكين تلعب دوراً مزدوجاً في هذا الملف، بمعنى أنها في العلن تقف ضد بيونج يانج، لكنها في السر تمدها بكل أسباب البقاء والديمومة، وذلك من منطلق أن الصينيين يسرهم وجود دولة نووية مشاغبة للغرب بدلا من دولة كورية موحدة بإمكانها منافستهم اقتصاديا والترويج للديمقراطية على تخومهم. والشيء نفسه – وان بدرجة أقل - ينطبق على روسيا الاتحادية وريثة النظام الذي كان يوما ما حامية وحاضنة لنظام كوريا الشمالية.