وصل تيار العنف في أفغانستان وباكستان في الآونة الأخيرة إلى مستوىات قياسية تطرق إليها الجنرال "ديفيد بترايوس" قائد المنطقة المركزية الأميركية في تصريح له في الثاني عشر من شهر يونيو الحالي بقوله:"لقد شهد الأسبوع الأخير أعلى معدل للحوادث الأمنية في أفغانستان في مرحلة ما بعد التحرير (يقصد في المرحلة الممتدة منذ طرد طالبان عام 2001 وحتى الآن). وفقاً للتقارير الواردة من الولايات المتحدة، تُبذل في الوقت الراهن جهود هائلة في البيت الأبيض والبنتاجون، بناء على المعطيات التي يقدمها القادة الموجودون في الميدان -بمن فيهم الجنرال ستانلي ماكريستال القائد الأميركي الأعلى الجديد في أفغانستان، وذلك من أجل مراجعة وتوضيح استراتيجية أميركا الحربية الشاملة. والتصور السائد في الوقت الراهن هو أن "أوباما" عاقد العزم، كما تعهد، على سحب كافة القوات الأميركية من العراق خلال ولايته الأولى في الحكم، بصرف النظر عن طبيعة الأوضاع الأمنية السائدة في ذلك البلد، وبعد ذلك، سحب قواته من أفغانستان أيضا إذا أعيد انتخابه عام 2012 لولاية ثانية. والأنباء القادمة من كافة الجبهات تتساوى في درجة سوئها: ففي العراق اشتعل العنف مجدداً، واضعاً الاستقرار النسبي الذي تحقق في الشهور الأخيرة في ذلك البلد موضع الشك. أما في أفغانستان، فقد أصبحت هجمات "طالبان" أكثر جرأة، وأوسع انتشاراً عما كانت عليه من قبل. وفي باكستان، أصبحت الهجمات الانتحارية أكثر دموية، كرد فعل كما هو واضح للهجوم الذي شنه الجيش الباكستاني على مناطق "طالبان". ففي التاسع من يونيو الحالي، على سبيل المثال، تعرض فندق "بيرل كونتينينتال" في بيشاور للتدمير في هجوم ضخم بسيارة مفخخة، ما أدى إلى خسائر كبيرة في الأرواح. وفي الثاني عشر من يونيو، لقي"مفتي سافاراز نعيمي" رجل الدين المسلم البارز، والمعروف بشجبه للهجمات الانتحارية مصرعه في مدينة "لاهور" على أيدي مهاجم انتحاري اقتحم مسجده. وفي نفس اليوم، ولكن في بغداد، لقي "حارث العبيدي" رئيس "جبهة التوافق العراقية" أكبر كتلة سُنية في البرلمان العراقي، مصرعه عقب إطلاق النار عليه وهو داخل مسجد أيضا. وحوادث القتل المستهدفة تلك كان لها تداعيات تفوق بكثير مجرد مصرع ضحاياها المباشرين. ويبدو أن هناك مبدأين يحكمان استراتيجية أميركا العسكرية المعدلة في الوقت الراهن. الأول، أن حرب أميركا في أفغانستان ليست مع" البشتون" القبيلة القوية التي تعيش على خطي الحدود الفاصلة بين أفغانستان وباكستان، وتقدم لـ"طالبان" ما تحتاجه من مقاتلين، وإنما مع تنظيم"القاعدة"، التي استفاد رجاله في الماضي، ومازالوا يستفيدون حتى الآن، من كرم البشتون وحسن ضيافتهم. والسياسة الأميركية الحالية تهدف إلى فصل "القاعدة" عن "البشتون" من خلال تدمير التنظيم، والتفاوض لاحقا مع القبيلة. المبدأ الثاني، هو أن الحرب في أفغانستان لا يمكن كسبها، طالما ظل المتمردون قادرين على الاحتماء بالملاجئ، وتجنيد المجندين، وتدريبهم، وتزويدهم بالمعدات عبر الحدود، وتحديدا في المناطق القبلية التابعة لـ"الولاية الحدودية الشمالية العربية". وإذا ما أُريد تحقيق تقدم في أفغانستان، فإن الأمر يستلزم القيام أولا بتطهير الملاذات الآمنة من المتمردين، وإعادة المناطق التي توجد بها تلك الملاذات إلى سيطرة الحكومة الباكستانية، بدلا من تركها تحت إمرة شيوخ القبائل. من هنا يمكن تفسير الهجوم الكبير الذي يشنه الجيش الباكستاني منذ بدايات شهر مايو الماضي - بمساعدة وتشجيع من الولايات المتحدة - على مقاتلي "طالبان" في وادي "سوات"، وغيره من المناطق الملتهبة الواقعة في عمق ما يعرف بـ "المناطق القبلية المدارة فيدراليا". ومن أجل دعم هذا الهجوم الكبير، أمدت الولايات المتحدة الجيش الباكستاني بعدد من طائرات النقل العمودية الثقيلة، كما وعد الرئيس" أوباما" بتقديم 7.5 مليار دولار على مدار السنوات الخمس القادمة أي بمعدل 1.5 مليار دولار سنوياً لدعم باكستان وتشجيعها على مواصلة الحرب بلا هوادة ضد معاقل الإرهاب. ولكن هذا المبلغ لا يمثل سوى مجرد بداية لما يحتمل أن تضطر أميركا لإنفاقه. فالهجوم الأخير الذي شنه الجيش الباكستاني، على معاقل "طالبان" في وادي سوات، أدى إلى فرار ما لا يقل عن مليونين من السكان من مدنهم وقراهم التي احتدم فيها القتال بين الجانبين في أكبر حركة نزوح جماعي في باكستان منذ إنشائها عام 1947. وذلك العدد الهائل من النازحين يحتاج إلى معسكرات مزودة بخيام، وإلى تزويد بالوقود والماء وغير ذلك من الاحتياجات الأساسية، وقد يحتاج أيضاً في حالات عديدة إلى توفير العلاج الطبي. وهي مهمة ضخمة تنطوي على معاناة هائلة وأكلاف باهظة. ليست هناك حاجة للقول بأن الهجوم الذي شنه الجيش لم يلقَ قبولا من السكان، ولكن يجب أن نشير أيضاً إلى أن الهجمات الانتحارية التي ردت بها "طالبان" على ذلك الهجوم، أدت إلى إحداث خسائر هائلة وسط المدنيين الأبرياء، وأدت إلى إثارة ثائرتهم تجاه تلك الجماعة المتطرفة. علاوة على ذلك نجد أن الباكستانيين الذين أجبروا على العيش تحت حكم "طالبان" خلال العامين الماضيين يشعرون الآن بمرارة كبيرة من هذه التجربة. ولا شك أن الأغلبية العظمى من هؤلاء السكان سيرغبون في العيش تحت حكم الشريعة الإسلامية، ولكن ذلك لا يعني أنهم يرحبون بالقواعد الاجتماعية الصارمة التي تطبقها "طالبان"، والتي تشمل منع النساء من الذهاب إلى الأسواق ما لم يكنّ مصحوبات بأحد الذكور من عائلاتهن، رفض تعليم الفتيات فوق سن العاشرة، ومنع بيع التسجيلات الموسيقية والمرئية، ومنع ممارسة رياضة الكريكيت الشعبية، بالإضافة إلى القيام بعمليات قطع الرؤوس البشعة ضد الموظفين الحكوميين. وكما يليق بقائد قوات خاصة سابق، فإن الجنرال" ماكريستال" يحاول كسب العقول والأفئدة خصوصا بعد أن أدت الهجمات التي تتم بطائرات التجسس التي تطير بدون طيار، إلى إثارة موجة من الغضب العارم بسبب أنها عادة ما تؤدي إلى مصرع أعداد كبيرة من المدنيين الأبرياء، حيث يقول الجنرال إنه سيتم الاقتصاد في شن مثل تلك الهجمات، مع اتخاذ أقصى درجات الحرص عند الاضطرار إلى تنفيذها. وحسبما تنبأ الجنرال "ديفيد بترايوس" فإن هناك" شهوراً صعبة" ستكون في انتظار القوات المسلحة الأميركية في أفغانستان وباكستان، وفي انتظار أوباما في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض أيضا.