كم كان غريباً أن أعلنت منظمة الصحة العالمية انتشار مرض انفلونزا الخنازير، باعتباره وباءً عالمياً، مما دفع حكومات الدول في كافة أنحاء العالم لاتخاذ إجراءات وخطط احترازية طارئة في مواجهته! فالمعروف أن أخف الأوبئة المرضية التي حدثت خلال القرن العشرين، خلفت وراءها ما لا يقل عن مليون قتيل في مختلف بلدان العالم، وفقاً لمعلومات منظمة الصحة العالمية نفسها. وبالمقارنة تصيب الانفلونزا الموسمية العادية شعوب جميع الأمم وتخلف وراءها نحو 250-500 ألف من حالة وفاه سنوياً. لكن وحتى إعلان منظمة الصحة العالمية عن وباء H1N1 وباءً عالمياً يوم الخميس الماضي، يلاحظ أن الفيروس المسبب للمرض لم يقتل سوى 144 ضحية فحسب، وهو عدد أقل بكثير ممن تقتلهم الانفلونزا الموسمية السنوية في مختلف أنحاء العالم. أما في المكسيك التي ظهر فيها المرض أصلاً، فقد ارتفعت الإصابات وارتفعت كذلك أعداد الوفيات خلال أربعة أسابيع فحسب من بدء انتشار المرض بقوة أكبر من غيرها في البلدان الأخرى التي انتقلت إليها العدوى. ويصبح الإعلان عن وباء مرضي ما، أكثر تكلفة حين تكون الدول والحكومات غير مستعدة لتمويل مواجهته، إلى جانب القيود التي يفرضها على حركة وتنقل المواطنين، خاصة إذا فكرنا في المشكلات التي يمكن أن يخلقها إعلان كهذا في دولة عالية الكثافة السكانية مثل الصين والهند. بل الأهم من هذا كله أن الإعلان عن خطر وبائي غير حقيقي من قبل منظمة الصحة العالمية، يفرغ هذا الخطر من محتواه، ويجعل شعوب الدول مكشوفة ومعرضة للخطر حين يضربها وباء مرضي حقيقي. ولما كانت هذه هي الحقائق.. فما الذي دفع المنظمة الدولية للإعلان عن وباء انفلونزا الخنازير باعتباره وباءً عالمياً؟ يمكن القول في الإجابة عن هذا السؤال إن منظمة الصحة العالمية كانت تتبنى في السابق تعريفاً للوباء يتطلب تزامن عدد من الأوبئة التي تعم العالم قاطبة وتتسبب في إصابة ومصرع عدد كبير من الضحايا عالمياً. لكنها ومنذ عام 2005 بدأت الترويج لتعريف جديد للأوبئة، يتجاهل عدد الذين يصابون بالمرض، وكذلك عدد الوفيات الناجمة عنه. والذي يتطلبه التعريف الجديد للأوبئة هو "وجود سلسلة مستمرة من انتقال العدوى من البشر إلى البشر، مما يؤدي لانتشار المرض في جزءين من العالم". ويضيف التعريف الدولي الجديد للأوبئة ما يلي: "لا بد أن يكون سبب انتشار الوباء إما فيروس ينتقل من البشر إلى الحيوان أومن الحيوان إلى البشر". ووفقاً لهذا التعريف، يمكن أن يعتبر انتشار وباء انفلونزا الخنازير في عدد من دول أميركا اللاتينية والصين وباءً عالمياً، دون أن يتطلب ذلك وقوع أي وفيات. وبالمقارنة، يستبعد التعريف الدولي للأوبئة أن يكون فيروساً طبيعياً يتناقله البشر فيما بينهم ويقتل 20 مليوناً منهم من بين الفيروسات التي تصنف على أنها وباء عالمي! والفرضية التي يقوم عليها تعريف منظمة الصحة العالمية للفيروسات الوبائية هي أن الفيروسات الحاملة للجينات الحيوانية هي الأشد فتكاً وخطراً على حياة البشر. ولكن ليست هذه الفرضية سوى مسألة يقينية أكثر من كونها علمية. ذلك هو رأي "جيمس تشن" أستاذ الوبائيات بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، الذي تولى سابقاً مسؤولية الإشراف والتحكم بالأمراض المعدية في منظمة الصحة العالمية في أواخر عقد الثمانينيات. ذلك أن العلم يشير بكل تأكيد إلى خطأ هذه الفرضية. فعلى سبيل المثال، كانت منظمة الصحة العالمية قد تنبأت بأن يؤدي انتشار فيروس H5N1 المسبب لانفلونزا الطيور في عام 2004 إلى مصرع الملايين. ولكن أثبتت دراسة علمية للفيروس نفسه في عام 2007، أثبتت رصداً لوجود الفيروس منذ عام 1959، وقالت إنه مر بتحولات جينية عديدة، إلا أنه ظل طوال هذه العقود والسنوات أبعد بكثير من أن يتحول إلى مرض يمكن تناقل عدواه بين البشر. ليس ذلك فحسب، بل حذرت منظمة الصحة العالمية نفسها لاحقاً من أنه، وفي حال اختلاط فيروس H5N1 بالفيروس المسبب للانفلونزا البشرية العادية، فعندها سوف يؤدي ذلك الاختلاط إلى أن تكون شدة إصابة البشر بالفيروس بتلك التي تصاب بها الطيور، بينما يكون انتشار العدوى به سريعاً بين البشر سرعة انتقال الانفلونزا العادية بينهم. ولكن توصلت "مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها" في عام 2006 إلى عكس ذلك التحذير الدولي تماماً. فقد جاء الاستنتاج العلمي القائم على الدراسة والتجارب المعملية، أنه وفي حال خضوع فيروس انفلونزا الطيور لأي عملية هندسة وراثية تخلط بينه والفيروس المسبب للانفلونزا البشرية العادية، فسوف تكون إصابة البشر به ضعيفة للغاية، مقارنة بقوة الإصابة بفيروس H5N1 منفرداً. وفي الاتجاه نفسه، كانت قد انتشرت عينة من فيروس انفلونزا الخنازير في نيوجرسي بين عدد من الجنود المرابطين في قاعدة عسكرية هناك في عام 1976، ولم تصب منهم سوى 230 جندياً بين آلاف الجنود المرابطين هناك في عز موسم فصل الشتاء -حيث تكثر الإصابة بالانفلونزا عادةً- ولم يزد عدد القتلى من المصابين بالعدوى سوى واحد فحسب. غير أن هذا الخطأ المتكرر في إعلانات منظمة الصحة العالمية مؤخراً عن الأمراض الوبائية لا يمنع الاعتراف بحقيقة أن الانفلونزا الإسبانية -وهي أسوأ الأمراض الوبائية التي ضربت البشرية بين عامي 1918-1819- تضمنت خليطاً جينياً بين البشر والحيوان. ومن يومها سيطر هوس الهجين القادم أو عينة الانفلونزا الإسبانية المقبلة، على القائمين على درء الأوبئة ومكافحتها، مع ظهور كل فيروس جديد منذ ذلك الوقت وإلى اليوم. وهذا هو الهوس نفسه الذي دفع منظمة الصحة العالمية لترويج الذعر العالمي من وهم الانتشار الوبائي لانفلونزا الخنازير. مايكل فومينتو كاتب أميركي متخصص في الشؤون العلمية والصحية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"