أن تثير النتيجة النهائية للانتخابات الرئاسية في إيران التساؤل، وأن تفرض أكثر من علامة تعجب ليس جديداً تماماً. الانتخابات الرئاسية السابقة عام 2005 أثارت التساؤلات، لكنها لم تنته إلى صدام. ينقل الدكتور توفيق السيف في كتابه المهم "حدود الديمقراطية الدينية" المشهد التالي عن نهاية تلك الانتخابات: "آوى مهدي كروبي، رئيس البرلمان السابق، والمرشح لانتخابات الرئاسة، إلى فراشه بعدما قرأ تقارير تشير إلى تقدمه على بقية المنافسين في الانتخابات التي جرت في اليوم السابق. اعتمد كروبي في تقديراته المتفائلة على تقارير مساعديه المتواجدين في مراكز التصويت والفرز، إضافة إلى الموقع الرسمي لوزارة الداخلية على شبكة الإنترنت والذي كان ينقل بثاً مباشراً من غرفة عمليات الوزارة عن تقدم عمليات التصويت، والفرز، وما يرد من معلومات من الأقاليم حول النتائج الأولية لكل صندوق يجري فرزه". لكن بعد ثلاث ساعات، أو "في الثامنة من صباح ذلك اليوم، استيقظ كروبي على صورة مختلفة تماماً... فالمرشح أحمدي نجاد الذي كان خلفه بمسافة كبيرة قفزت أصواته فجأة إلى المركز الأول." (ص 310). لا يتفق الدكتور توفيق تماماً مع هذا التشكيك الذي أثاره كروبي حينها، معتمداً في ذلك على معطيات يرى أنها لا تسند إدعاءات المرشح الإصلاحي. لم يعد مهماً التأكد من صحة وقانونية ما حصل في الانتخابات السابقة. الأهم أن المشهد نفسه تكرر مساء الجمعة الماضي مع مرشح إصلاحي آخر، هو مير حسين موسوي، وأمام المرشح المحافظ نفسه، أحمدي نجاد. والمثير في كل ذلك أن الأخير كان، ولا يزال مرشح النظام الحاكم الذي يتولى إدارة الانتخابات والإشراف عليها. من هنا يفرض السؤال نفسه: هل حصل تلاعب في عمليات التصويت، وفرز الأصوات من قبل الجهات الرسمية المشرفة على الانتخابات من أجل أن يفوز مرشحها مرة أخرى؟ حجم الاحتجاجات والمظاهرات التي اندلعت بعد إعلان النتائج مساء الجمعة الماضي، وضع النظام في مأزق مواجهة موجة عارمة من الشك، والمطالبة ليس فقط بإعادة فرز الأصوات، بل وبإعادة عملية الانتخاب برمتها. والمعطيات التي يعتمد عليها المحتجون كثيرة، وتستحق أن تأخذها السلطات وتواجهها بكل ما تحمله من جدية وتحد لمصداقيتها. من هذه المعطيات أن شيئاً شبيهاً بما حصل مع كروبي في 2005 تكرر مع موسوي هذه المرة. فحسب محسن ماخبالباف، المتحدث باسم موسوي، اتصلت وزارة الداخلية في الساعات الأولى بعد انتهاء التصويت بالمقر الانتخابي لحسين موسوي وأخبرتهم بأن موسوي سيكون الفائز في الانتخابات. وطلبت الوزارة من موسوي أن يبتعد في خطابه الذي سيعلن فيه فوزه عن التفاخر كثيراً بالانتصار الذي حققه حتى لا يستفز أنصار أحمدي نجاد، والكثيرين منهم من المليشيات التابعة للنظام. بل يقول المتحدث بأن مرشد الجمهورية، علي خامنئي، أطلع على النتيجة، وأنه بدوره أكد على ضرورة أن يبتعد موسوي عن الاستفزاز حين الإعلان عن انتصاره. ثم بعد ساعات من هذه التطورات، وحسب ماخبالباف مرة أخرى، تم تطويق المقر الانتخابي لموسوي، ومبنى وزارة الداخلية من قبل عناصر مسلحة من قوات الأمن. وبعدها بدأت المعلومات تأتي من وزارة الداخلية تؤكد فوز أحمدي نجاد. من هنا، يؤكد المتحدث باسم موسوي بأن انقلاباً حصل، وأن عملية تزوير على نطاق واسع تم تنفيذها لتغيير نتيجة الانتخابات. هذه مجرد إدعاءات لم يتم التأكد منها حتى الآن. ومع ذلك، فإن حجم انتصار نجاد (63 في المئة)، وتسرع مرشد الجمهورية في مباركة النتيجة، ثم رد فعل الحكومة على الاحتجاجات التي انفجرت بسرعة لافتة، كل ذلك ألقى بظلال كثيفة من الشك حول الطريقة التي تمت بها إدارة الانتخابات، وفرزت بها الأصوات. فأحمدي نجاد لم يحقق الفوز في الأرياف، ولدى الطبقات الشعبية والمحافظة كما كان متوقعاً. بل فاز في المدن الكبيرة التي كانت الاستطلاعات تقول إنها تميل إلى المرشحين الإصلاحيين. الأكثر من ذلك أن نجاد فاز حتى في المناطق التي ينتمي إليها كل من موسوي وكروبي. ومما أضاف إلى الشكوك النسبة المتدنية التي خسر بها كروبي انتخابات هذا العام مقارنة مع خسارته في الانتخابات السابقة. هذا رغم أن أداء حكومة نجاد خلال الأربع سنوات الماضية كان سيئاً من الناحية الاقتصادية نظراً لتصاعد معدلات غلاء الأسعار، والتضخم، والبطالة، وتدني الأجور. من ناحية السياسة الخارجية لم يكن الأداء أفضل من ذلك، خاصة لجهة تأزم علاقات إيران مع الكثير من الدول المجاورة، ومع الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة، الأمر الذي جعل إيران تعاني من عزلة إقليمية ودولية. كيف يمكن في هذه الحالة أن يحقق نجاد فوزاً كاسحاً في انتخابات كانت المؤشرات تقول إن نتيجتها مرشحة لأن تكون متقاربة؟ الرد العنيف الذي لجأت إليه الحكومة أمام الاحتجاجات المتصاعدة، والتعتيم الذي فرضته بتعطيل شبكة الهاتف المحمول، ومنع تبادل الرسائل الجوالة، وإغلاق مواقع الإنترنت، زاد من شكوك وريبة الجماهير. إذا لم يكن هناك تزوير، وإذ كانت نسبة فوز نجاد بالحجم الذي أعلنته الحكومة، لماذا اللجوء إلى العنف والتعتيم؟ كان الهدف الواضح من تلك الإجراءات منع التواصل بين أنصار المرشح موسوي، ومنع التنسيق لتنظيم المظاهرات. لماذا الخوف من المظاهرات؟ لكن المظاهرات استمرت بوتيرة تصاعدية أدت حتى الآن إلى سقوط سبعة قتلى، وعدد من الجرحى. ثم لجأت السلطات إلى التضييق على الإعلام الأجنبي في تغطيته للأحداث. ثم يأتي موقف المرشد، الذي بارك فوز نجاد بعد ساعات من إعلان النتيجة، ليزيد من الشكوك، ويغذي الاحتجاج. يبدو أن المرشد أراد بذلك وضع حد للاختلاف والجدل، وفرض القبول بالنتيجة كما هي، وهو ما لم يحصل. والأسوأ أن المرشد تعدى بذلك على الحق الدستوري لمجلس صيانة الدستور المنوطة به مهمة الإشراف على الانتخابات، والمصادقة على نتيجتها. والسؤال هنا: لماذا تسرّع المرشد في الإقدام على خطوة تبين أنها ليست دستورية؟ وهو تسرع اضطر في الأخير إلى التراجع عنه، والتسليم بأن نتيجة الانتخابات ليست نهائية. إذن ما بين انتخابات 2005 و2009 تبدو أحداث الداخل الإيراني وكأنها تجاوزت مرحلة فاصلة. آنذاك لم يتجاوز الأمر حالة التساؤل والتعجب. الآن تحول التساؤل إلى شعارات واتهامات، وتحولت علامات التعجب إلى أعمال احتجاجية، وعمليات صدام تغذيها حشود كبيرة من المتظاهرين في الشوارع. ما يحصل في طهران هذه الأيام يحمل في طياته مؤشراً قد تثبت الأيام أنه أكثر خطورة مما يبدو على السطح. ما يحصل هو أول صدام، وعلى نطاق واسع، بين النظام السياسي وبين الشارع الذي أتى بهذا النظام تحت شعار الثورة. منذ عام 1979 لم يحصل أن اندفعت الجماهير بمئات الآلاف تحت شعارات تندد بممارسات النظام، وتتهمه بتزوير نتائج الانتخابات الرئاسية. وهذه تهمة خطيرة لنظام يستند في شرعيته الى أيديولوجيا دينية تفترض حداً أدنى من المصداقية، وغلالة من الالتزام الأخلاقي أمام الشعب كان يبدو أنه من الصعب التشكيك فيها. أضف إلى ذلك انقسام المؤسسة الدينية نفسها بسبب هذه الانتخابات. فعدد المراجع الدينية التي أعلنت رفضها ما حدث ويحدث قبل وبعد الانتخابات يضع النظام في موقف حرج، ويغذي الانقسام بين الجماهير والنظام السياسي. تراجع النظام أمام الحشود، وقبوله بإعادة فرز الأصوات في الدوائر التي هي محل شك، يعبر عن شعور عميق بحجم الأزمة. وهو تراجع قد يكون له تداعيات غير متوقعة. ماذا لو أصرت الجماهير الغاضبة أمام هذا التراجع على المطالبة بإعادة عملية الانتخاب برمتها؟ كيف سيكون موقف النظام حينها؟ المظاهرات التي تتحدى الحظر الرسمي، وتجوب شوارع العاصمة هذه الأيام تمثل سابقة، وشرخاً يتطلب الكثير لإصلاحه. تبدو الثورة الإيرانية أمام أخطر منعطف مرت به. حتى يوم السبت الماضي كانت الحشود الكبيرة تنزل إلى الشارع باسم الثورة، تضامناً مع النظام الحاكم وحمايةً له. الآن تغير المشهد، وربما تغيرت معه المعادلة أيضاً. أصبحت الحشود تندد بممارسات النظام، وتشكك في مصداقيته. واللافت أن هذا يحدث عشية بداية الحوار بين إيران والولايات المتحدة، أو "الشيطان الأكبر". وفي هذا دلالة على حيوية الشعب الإيراني، وعلى وعيه السياسي. فوجود "الشيطان الأكبر" ليس مبرراً لأن ينتهك النظام حقوق الشعب، وأن يتلاعب بصوته الانتخابي. من هنا كان شعار كل فرد من بين الجماهير في طهران: "أين صوتي؟".