صعد أوباما إلى منصب الرئيس في الولايات المتحدة بعد حملة انتخابية قادها بمنتهى الاقتدار تحت شعار "التغيير". وكان لهذه الكلمة وقع السحر لدى ملايين الناخبين الديمقراطيين والجمهوريين، بعد أن طفح بهم الكيل من أخطاء وخطايا ثماني سنوات عجاف، من حكم الجمهوريين برئاسة بوش. وقد جاء "أوباما" حاملا راية التغيير، لأن النخبة السياسية الأميركية جمهورية كانت أو ديمقراطية، أحست بأن بوش أضر بسمعة أميركا ضرراً بالغاً بمغامراته العسكرية التي أدخلها فيها، مما أدى بالجماهير إلى اختيار "أوباما" الذي اكتسح الانتخابات لأنه رفع شعار التغيير تحديداً. غير أن السؤال الرئيسي هو: هل الرئيس الشاب الجديد الذي تبنى شعارات بالغة الإيجابية، أهمها الاحترام الحقيقي لحقوق الإنسان، وتطبيق حكم القانون، واعتماد لغة الحوار بدلا من لغة المدافع، قادر على إحداث التغيير أم أن هناك عقبات كامنة في صميم بنية النظام السياسي الأميركي، قد تحد من طموحه ولا تسمح له بالتغيير إلا قليلا؟ هذا سؤال مهم لأن الإجابة الموضوعية عليه هي التي ستحدد مدى واقعية الآمال التي علقتها على أوباما ملايين البشر سواء في الولايات المتحدة أم خارجها ممن جذبتهم القصة الأسطورية لصعوده من اللامكان، لكي يتصدر كرسي الرئاسة الأميركية، على رغم أصوله العرقية المختلفة التي يكشف عنها اسمه الغريب "باراك حسين أوباما"، وظروف نشأته الصعبة التي خاضها بإرادة من حديد، لكي يتخرج في جامعة هارفارد العريقة، ويصبح قانونياً لامعاً ثم لكي يكون من بعد أصغر أعضاء الكونجرس سناً. لكن ما هي فرصة أوباما التاريخية في تغيير توجهات السياسة الخارجية الأميركية؟ لنعترف منذ البداية بأن إدراكات النخبة السياسية الحاكمة في أميركا للمصالح القومية الأميركية، من شأنها أن تحد قدرة أي رئيس أميركي جمهورياً كان أو ديمقراطياً، من إمكانية التغيير المطلقة مهما كانت شخصيته واتجاهاته السياسية! وبعبارة أخرى هناك "أجندة" تحدد المصالح القومية الأميركية التي تبلورت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، وبعد بداية الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي الذي نشب إثر تحقيق انتصار الحلفاء على دول المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان). وقد حددت الولايات المتحدة استراتيجيتها مبكراً في هذا الصراع في ضوء مذهب "الاحتواء" Containment الذي صاغ معالمه الدبلوماسي الأميركي الشهير "جورج كينان"، ويعني ببساطة محاصرة الاتحاد السوفييتي عسكرياً بالأحلاف وفي مقدمتها حلف "الناتو"، وسياسياً بمحاربة امتداد الشيوعية إلى مختلف دول العالم، وثقافياً بشن حرب إيديولوجية ضد الماركسية فيما أطلق عليه من بعد "الحرب الباردة الثقافية"، التي قامت على أساس تفنيد دعاوى الماركسية وتشويه التجربة الشيوعية، وتمجيد المبادئ الرأسمالية، وتقديم صور جذابة لأسلوب الحياة الأميركي. ومعنى ذلك أن محاربة الشيوعية كانت هي البند الأول في بنود أجندة المصالح القومية الأميركية. وأما البند الثاني فهو التأييد المطلق للدولة الإسرائيلية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. وقد ظهر التأييد السياسي الأميركي جلياً بعد أن أعلنت واشنطن اعترافها بالدولة الإسرائيلية عام 1948 بعد دقائق من إعلان قيامها. وهناك قصة تاريخية موثقة مؤداها أن الرئيس الأميركي "هاري ترومان" قد خضع في ذلك لتأثير أحد أصدقائه اليهود المقربين الذي زاره سراً في البيت الأبيض ليشجعه على السير قدماً في طريق التأييد الكامل لإسرائيل بعد الاعتراف الأميركي بها. وقد تطور هذا التأييد السياسي لإسرائيل ليصبح عقيدة أميركية رسمية تتمثل في توجيهات مستديمة لممثلي الولايات المتحدة في مجلس الأمن، في استخدام "الفيتو" لمنع استصدار مجلس الأمن لأي قرار بإدانة إسرائيل، حتى لو كانت ارتكبت مذبحة ضد الشعب الفلسطيني المناضل، ولو كان ذلك بمعارضة كل حلفائها الذين يميلون أحياناً -تحت ضغوط الرأي العام العالمي- إلى مجرد الإدانة اللفظية لجرائم إسرائيل! وقد امتد التأييد السياسي الأميركي لإسرائيل، وتمثل في عدم معارضتها للتوسع الاستعماري الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بالإضافة إلى تعويقها لأي محاولات دولية لحل الصراع، على أساس صياغة اتفاق عادل يعطي الشعب الفلسطيني الحد الأدنى من حقوقه المشروعة. بل إن التأييد السياسي لإسرائيل وصل إلى أقصى مداه في عهد "جونسون" الذي أعطى الضوء الأخضر لإسرائيل لمهاجمة مصر في 5 يونيو 1967، للخلاص من نظام عبدالناصر الذي كان يعتبره مناهضاً للسياسة الأميركية. وليس ذلك فحسب، بل إمداد إسرائيل بالطائرات الكفيلة بالحصول على نصر سريع. وقد تجاوزت الولايات المتحدة التأييد السياسي المطلق لإسرائيل، بإعطائها مئات الملايين من الدولارات سنوياً كمنح، بالإضافة إلى مئات الملايين من الدولارات باعتبارها قروضاً بشروط ميسرة، كانت تتحول عملياً -كما يقرر أحد الكتب الموثقة- إلى منح، لأنها لم تكن تسدد إطلاقاً! ومعنى هذا أن التأييد السياسي الأميركي المطلق لإسرائيل، من ثوابت أجندة المصلحة القومية الأميركية. وقد أكد ذلك بوضوح نادر أوباما في خطابه الذي ألقاه من منبر جامعة القاهرة، حين قرر أن العلاقات الوثيقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل ستبقى وتستمر، بالإضافة إلى مغازلة الدولة الإسرائيلية العنصرية بالاعتراف بالهولوكست، وتأييد المزاعم الصهيونية التي أكدت أنه راح ضحيتها ستة ملايين يهودي. ومما لاشك فيه أن ضمان تدفق النفط العربي أساساً بسعر معقول، هو أيضاً أحد ثوابت أجندة المصالح القومية الأميركية. وينبغي ألا ننسى أن الولايات المتحدة أقامت نهضتها الصناعية ومبادراتها التكنولوجية العملاقة وخصوصاً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، على أساس النفط العربي الرخيص الذي لم يكن يزيد سعر البرميل منه عن بضعة دولارات في الخمسينيات، ولم يشهد العالم ارتفاعاً في السعر إلا بعد حرب أكتوبر 1973، حين توقف إمداد أميركا بالنفط العربي. ومما يؤكد أهمية النفط العربي أن ضمان تدفقه من العراق كان أحد أهداف الغزو العسكري له. وتضاف كذلك إلى أجندة المصالح القومية الأميركية مناهضة الدول التي قد تمثل -في إدراكات النخبة السياسية الأميركية- تهديداً محتملا للأمن القومي الأميركي. ولذلك ابتكرت إدارة بوش مصطلح "محور الشر" الذي يتمثل أساساً في ثلاث دول هي العراق (بحكم امتلاكه أسلحة دمار شامل كما زعمت المصادر الأميركية قبل غزوه عسكرياً)، وإيران، وكوريا الشمالية. وقد حذف العراق الآن من القائمة بعد غزوه، وتبقى بعد ذلك إيران، وكوريا الشمالية التي تمارس سياسة استفزازية بتجارب إطلاق الصواريخ بعيدة المدى. ويبقى آخراً، وقد يكون ذلك أولا، الحفاظ على المصالح الاقتصادية للمؤسسات والبنوك الرأسمالية الأميركية الكبرى، باعتبار ذلك في قمة أولويات المصلحة القومية. والدليل على ذلك أنه بعد انهيار هذه المؤسسات في الأزمة المالية، لم تتورع الإدارة الأميركية -خلافاً لكل العقائد المقدسة للرأسمالية في عدم تدخل الدولة- بضخ 750 مليون دولار لإنقاذ هذه المؤسسات. والخلاصة أن هناك أجندة محددة للمصالح القومية الأميركية لا يستطيع أي رئيس أميركي جمهورياً كان أم ديمقراطياً، أن يغير فيها إلا قليلا وبقدر محسوب، لأن مراكز القوى الأميركية هي التي حددت أجندة المصالح القومية. والسؤال الذي يستحق إجابة هو: ما هي هذه المراكز التي تتحكم في صياغة وتنفيذ السياسة الخارجية الأميركية بالإضافة إلى السياسات الداخلية؟ أو بعبارة أخرى، من يحكم أميركا؟ إن الإجابة ستحدد قدرة "أوباما" أو أي رئيس أميركي آخر، على التغير الجذري لتوجهات السياسة الأميركية!