من الممكن تقسيم الأمراض السرطانية حسب الجنس، حيث تصيب بعض هذه الأمراض الإناث فقط، مثل سرطان الرحم أو سرطان المبيض، بينما يصيب البعض الآخر الذكور فقط، مثل سرطان البروستاتا أو سرطان الخصية. أما الجزء الثالث من الأمراض السرطانية، والأكبر في الحقيقة، فهو الأمراض التي تصيب الجنسين معاً. ولكن طالما تساءل الأطباء عما إذا كانت أمراض هذه المجموعة الأخيرة تصيب الجنسين بالتساوي؟ وهو السؤال الذي شرع في الإجابة عليه مجموعة من العلماء من هيئة خيرية بحثية تختص بالأمراض السرطانية في بريطانيا (Cancer Research UK)، من خلال تحليل إحصائيات ونتائج معدلات الإصابة، ونسبة الوفيات بين الذكور والإناث لعامي 2006 و2007. وكانت المفاجأة، التي أثارت حتى دهشة العلماء والباحثين، أن الأمراض السرطانية المشتركة بين الجنسين، تصيب الرجال بمعدلات أكبر بكثير، وتتسبب في نسبة أعلى من الوفيات بينهم. حيث تزيد احتمالات إصابة الرجال بنسبة 60 في المئة، وتزيد احتمالات وفاتهم إذا ما أصيبوا بنسبة 70 في المئة. وهو ما يعني أن الرجال ليسوا فقط أكثر عرضة للإصابة بالأمراض السرطانية المشتركة، ولكن أيضاً أنهم إذا ما أصيبوا بها تزداد احتمالات وفاتهم بنسبة ملحوظة مقارنة بالنساء. وحتى إذا ما حللنا جميع أنواع الأمراض السرطانية بمختلف أنواعها، الأنثوية فقط، والذكورية فقط، والمشتركة، فسنجد أن الرجال أكثر عرضة للإصابة بالأمراض السرطانية بوجه عام بنسبة 16 في المئة، والوفاة بسببها بنسبة 40 في المئة. وفي ظل غياب سبب بيولوجي أو فسيولوجي لهذا الفارق الشاسع، اتجهت أنظار العلماء إلى نمط الحياة (Lifestyle)، المعروف عنه مساهمته البالغة في احتمالات الإصابة بالأمراض السرطانية، واحتمالات الوفاة بسببها، إلى درجة أنه من الممكن الوقاية من أكثر من نصف الأمراض السرطانية، من خلال تحسين وتعديل نمط الحياة فقط. وهذه الحقيقة بالغة الأهمية، بنيت على واقع أن الغالبية العظمى من عوامل الخطر خلف الإصابة بالسرطان، هي عوامل بيئية أو عوامل مرتبطة بطبيعة الحياة، وهذا هو الأساس خلف الاعتقاد المتزايد بأن الإصابة بالسرطان ليست قدر محتوماً، بل هي حالة مرَضية يمكن تجنبه والوقاية منه. فمثلا من المعروف والثابت أن شرب الكحوليات يزيد من احتمالات الإصابة بسرطان الفم، والمريء، والثدي، وغيرها. بينما يرتبط التدخين ارتباطاً وثيقاً بسرطان الرئة القاتل الأكبر بين جميع أنواع السرطان على الإطلاق، ويرتبط انعدام النشاط البدني وممارسة الرياضة بسرطان القولون، وسرطان الثدي وغيرهما من الأنواع، مثله في ذلك مثل زيادة الوزن والسمنة، اللتين بخلاف ارتباطهما بسرطان القولون والثدي، تتسببان أيضاً في زيادة احتمالات الإصابة بسرطان الرحم. ولكن هذه الأسباب أو عوامل الخطر خلف الإصابة، لم تخلق جميعها سواسية، بناء على الإحصائيات الوبائية التي تظهر مثلا أن تجنب الكحوليات يمكنه أن يقلل من احتمالات الإصابة ببعض الأمراض السرطانية، ولكنه تأثير لا يقارن مثلا بتأثير الامتناع عن التدخين، وما ينتج عنه من خفض في احتمالات الإصابة والوفاة بسبب سرطان الرئة. وبخلاف شرب الكحوليات، والتدخين، والسمنة، توجد عوامل بيئية وسلوكية أخرى، ذات علاقة وثيقة بالإصابة بالسرطان. وربما كان أكثر هذه العوامل انتشاراً وشهرة هو بعض الأمراض التناسلية، مثل فيروس الثآليل الجنسية (Human Papillomavirus) المعروف عنه تسببه في الإصابة بسرطان عنق الرحم. أو تعاطي الهرمونات لسبب أو آخر، أو التعرض للأشعة السينية المتأيِّنة، أو الأشعة فوق البنفسجية الموجودة في أشعة الشمس لفترات طويلة، بالإضافة طبعاً إلى مسببات السرطان الموجودة في أماكن العمل، حيث تظهر الإحصائيات وفاة أكثر من 200 ألف سنوياً حول العالم، بسبب ملوثات موجودة في أماكن العمل. على أن ثمة حزمة أخرى من العوامل البيئية التي تساهم بشكل واضح في الإصابة بالسرطان، في مقدمتها كمية ونوعية الغذاء. فعلى صعيد الكمية، وكما ذكرنا، ترتبط أنواع مختلفة من السرطان بزيادة الوزن والسمنة. أما على صعيد النوعية، فإن الدراسات تظهر أن غياب بعض العناصر الغذائية، وخصوصاً تلك الموجودة في الخضروات والفاكهة، يفقد الجسم مجموعة كبيرة من الدفاعات الطبيعية. وغني عن الذكر هنا أن غذاء إنسان القرن الحادي والعشرين، شهد تراجعاً بقدر كبير في كمية الخضروات والفواكه، التي تم إحلالها بكميات مساوية -أو أكبر حجماً بكثير- من الكربوهيدرات والبروتينات، وخصوصاً اللحوم الحمراء. وبخلاف ما هو مفتقد في غذاء العصر الحديث، ربما كان الأخطر هو ما أضيف إليه من مواد كيميائية وملونات من خلال صناعة الغذاء الحديثة. وأفضل مثال لتوضيح هذه الحقيقة هو الدراسة التي أجرتها مجموعة من الباحثين في جامعة استكهولم وإدارة الأغذية الوطنية بالسويد (Sweden National food Administration)، وأظهرت أن مادة مسرطنة "الأكريلاميد" تتكون بكميات كبيرة عند تسخين الأطعمة الغنية بالكربوهيدرات مثل البطاطس والأرز والحبوب إلى درجات حرارة مرتفعة. وحسب هذه الدراسة يحتوي كيس البطاطس المقلية "الشيبس" على كمية من "الأكريلاميد" تزيد بخمسمائة ضعف، على الحد الأقصى المسموح به من هذه المادة في مياه الشرب، وهو الحد الذي قررته منظمة الصحة العالمية نتيجة خطورة هذه المادة على الصحة العامة. أما بالنسبة لسبب إصابة الرجال، ووفاتهم، بمعدلات أكبر من الأمراض السرطانية مقارنة بالنساء، فهو ببساطة لأن الذكور بوجه عام يعيشون نمط حياة صحياً أسواء من الإناث. حيث ترتفع بينهم معدلات التدخين، وشرب الكحوليات، وزيادة الوزن والسمنة، والتعرض للملوثات الكيميائية في أماكن العمل، بالإضافة إلى أن الرجال بوجه عام أقل حفاظاً على صحتهم العامة من النساء، وأكثر تردداً في طلب المساعدة الطبية في المراحل الأولية من الأمراض السرطانية، وخاصة أن التبكير بذلك حيوي في زيادة فرص الشفاء والنجاة.