في فترات ماضية، كانت الكتب التي تتناول موضوع الصين تبدأ بمقدمة ذات طبيعة افتراضية يسبقها عادة السؤال: ماذا لو حكمت الصين العالم؟، وفي مرحلة أحدث أصبح السؤال: متى تحكم الصين العالم؟ أما اليوم فلم يعد هناك مجال لهذه الأسئلة الافتراضية، لأن التقدم الصيني نحو قيادة العالم قد أصبح حقيقة واقعة مما طرح سؤالا مختلفا هو: هل يمكن إيقاف التقدم الصيني الحالي؟ هذه هي الفكرة الأساسية لكتاب "مارتين جاك" الموسوم: "عندما تحكم الصين العالم: صعود المملكة الوسطى ونهاية العالم الغربي"، وهذه الفكرة مبنية على افتراض مؤداه أن الاقتصاد الصيني سوف يصبح بحلول عام 2050 أكبر اقتصاد في العالم، وأنه سيتجاوز اقتصاد الولايات المتحدة ذاتها. يقول المؤلف إن الصين وقياساً على ناتجها المحلي الإجمالي المتوقع في ذلك الوقت، ستصبح أقوى دولة في العالم سياسياً وعسكرياً، وأن المفكرين وعلماء المستقبل يجب أن يشغلوا أنفسهم منذ الآن بماذا سيحدث في تلك الحالة. يرى المؤلف أن صعود الصين سوف يقلب رأساً على عقب الافتراضات الغربية بشأن الحداثة، والتي تقوم على فكرة مؤداها أن جميع الاقتصادات المتقدمة في العالم هي اقتصاديات غربية أوروبية أو ذات أصل أوروبي، وأن الاستثناء الوحيد لذلك هو اليابان، وأن جميع الاقتصادات التي يمكن أن تصعد في نطاق ظاهرة العولمة سوف تجد نفسها مضطرة لتبني قيم الحداثة الغربية. ويحاجج المؤلف، بشكل يحمل في طياته قدراً من المنطق أن حجم الصين الذي يكاد يصل إلى حجم قارة، وعدد سكانها الهائل، وانسجامها العرقي، والثقة في مركزية حضارتها... تعني كلها أنها دولة قادرة على إعادة تعريف معنى الحداثة. ويتنبأ المؤلف أنه إذا ما كانت بريطانيا في زمانها قوة هيمنة بحرية، وكانت الولايات المتحدة الآن قوة هيمنة اقتصادية وعسكرية، فإن الصين سوف تكون قوة هيمنة ثقافية. والسبب أن ثقة الصين في نفسها، كانت تنمو بشكل موازٍ لصعودها التدريجي من قاع هاوية العبودية والهوان التي استقرت فيها لقرنين من الزمن، وأن الموضوع الرئيس الذي يشغل بال الصين حالياً ليس اللحاق بالغرب، وإنما استعادة المكانة التي تستحقها في العالم باعتبارها واحدة من أقدم وأعظم حضاراته. وحسب تعبيره فإن "الصين كقوة عالمية مهيمنة، سوف يكون لديها على الأرجح رؤية عالمية ذات طبيعة هرمية محددة، تقوم على مزيج من المواقف القومية والثقافية... إلخ". وخلال ذلك، سوف تعتمد الصين على أسسها الكونفوشيوسية الراسخة، وعلى قيمها الأبوية التي قد لا تنسجم بسهولة مع المبادئ الديمقراطية الغربية. ويقول المؤلف إنه يمكن العثور على معظم ملامح مستقبل الصين في ماضيها العريق، ويتوقع أنها ستعيد الاهتمام مجدداً بعلاقتها التاريخية مع الدول المجاورة. كما يرى أن نظرة الصين إلى نفسها باعتبارها دولة -حضارة وليست دولة -أمة تعني أنها لن تستسلم أبداً لأي هجمات تُشن ضد وحدتها من قبل الغرب وخصوصا إذا ما تعلق الأمر بتايوان. والنقطة المهيمنة على فصول الكتاب هي أن الحوار حول القيم سوف يجد جذوره مستقبلا في الثقافة وليس الأيديولوجيا، طالما أن القيم الأساسية لأي مجتمع هي في المقام الأول حصيلة إرث تاريخي وثقافي. وحجة المؤلف في ذلك هي أن الإرث الثقافي والتاريخي للصين هائل، وأنها تعتبره أكثر رقياً من التراث الغربي. وهذا الطرح قد يدفع الكثيرين ممن يتبنون فكرة أن القوى الصاعدة في عالم اليوم، وعلى رأسها الصين، سوف تضطر إلى إعادة صياغة نفسها على النموذج الأميركي، إلى مراجعة أنفسهم... بيد أنه يتعين القول هنا أيضاً إن تركيز المؤلف المبالغ فيه على العامل الثقافي باعتباره المحدد الرئيسي لمصير أمة، لا يتفق مع طرح كثير من المفكرين الذين تناولوا موضوع العلاقة بين الشرق والغرب، ومنهم "كريس باتين" آخر حاكم بريطاني لهونج كونج، والذي قال إن الفارق بين الشرق والغرب هو فارق زمني في الأساس وليس فارقاً ثقافياً. فمن خلال كتابه هذا يذهب "جاك" إلى الموقف النقيض من ذلك تماماً، حيث يبالغ في تقدير أهمية القيم الآسيوية التي تميل إلى وضع المجتمع فوق الفرد، ووضع القيم الاجتماعية والولاءات الأسرية فوق القانون، ووضع اعتبارات الاستقرار فوق الحرية. صحيح أن الأميركيين قد يضطرون في المستقبل إلى مشاهدة مزيد من الأفلام الصينية، وإلى تعلم اللغة "المندرينية"، لكن، وبنفس المعيار، يمكن القول أيضاً إن الصينيين سوف يستمرون في التعلم من الغرب، لاسيما في مجال العلوم والتكنولوجيا وممارسات الأعمال. وأنه في الوقت الذي سيضطر فيه الغرب إلى الاهتمام بشكل أكبر بمعرفة العقيدة الكونفوشيوسية، سيضطر الصينيون كذلك إلى قراءة مزيد من الأعمال الشكسبيرية لأن العالم سينحو بشكل متصاعد لأن يكون عالماً متعدد الأقطاب ومتعدد الطبقات الثقافية، وليس كما يقول المؤلف عالم ستعاد صياغته على النمط الصيني. سعيد كامل ------- الكتاب: عندما تحكم الصين العالم: صعود المملكة الوسطى ونهاية العالم الغربي المؤلف: مارتين جاك الناشر: آلين لين تاريخ النشر: 2009