كلما مرّت بنا هاتان الكلمتان تبادرت إلى أذهاننا العلاقات الملتهبة بين العشاق والمغرمين، لكن هناك قصص حب أخرى بصفات ونوعيات مختلفة، هي في رأيي الأعمق، لأنها ذات بهاء واكتمال لا حدود لهما. أن يرتبط فتى وفتاة بقصة حب، فهذا ليس غريباً، بل إن مثل تلك الحكايات تُنسج وتُفك في كل ساعة على هذه البسيطة. وما يكون صعب التشكل على هيئة قصص وارتباط عاطفي متأجج، تلك الوقائع المتمثلة في نكران الذات عند (البعض) في سبيل الأوطان وما تحمل من رموز. فعندما تبلغ حرارة الطقس الـ50 درجة مئوية وما فوق، وعندما تغلي الأرض والسماء، ويصمت الطير وتنحني الأشجار من السموم والهجير، وتشاهد رجال أمن في منشأة أو حراساً بسيطين لا يحملون أي رتبة يقفون تحت أشعة الشمس الحارقة المميتة، يراقبون، ويفتشون، يضبطون المخالفات والتجاوزات بلا تذمر ولا سخط، يحاولون قدر استطاعتهم الإبقاء على ذاك الرسم على محياهم من ابتسامة تعبة تخفي ما في النفوس، أليس هؤلاء صناع قصص حب لا مثيل لهم؟ حب يمثل طرفه الأول مثل أولئك الحراس المعذبون في هجيرهم، وطرفه الثاني معنوي ومادي في الوقت نفسه، معنوي في رموز الأمانة والمهام الملقاة على عاتق الحراس المراقبين. وأما الأحراز والممتلكات فهي الأشياء المادية التي يُسألون عنها إن هم قصروا في واجباتهم أو تغاضوا ولو دقيقة عن درء الأخطار المحدقة بها. قد يقول قائل: إن تلك الأمثلة من قصص الحب، ليست إلا علاقة أجير وأجر، وإن إطلاق مسميات الحب على أعمالهم غير مناسبة على الإطلاق لمن يأخذ مقابل ما يعمله من جهد وارتضى به وقبل بظروفه. ونقول لوجهة النظر تلك: نعم لنصف ما تقولون، لكن ألم يخطر ببالكم أن هؤلاء قادرون أن يتخذوا لأنفسهم طرقاً أخرى للكسب غير المشروع -مثل غيرهم- وفي هذا ثراء أكثر لهم ومشقة أقل لأجسادهم، وهم قادرون أيضاً إن لم يستطيعوا فعل ما ارتضاه الآخرون لأنفسهم أن يتكسبوا من عملهم الشاق ذاك، أو يغمضوا العين قليلا والضمير حيناً فيسرق من استطاع، ويفلت بدون عقوبة المتجاوز؟ كل ذلك سيحدث لو أعطى المعذبون في الأرض وتحت الشمس، إجازة لقيمهم وغفوة لمبادئهم. قصص الحب تسري أيضاً على من يطارد في الصحراء والأودية وقرب قمم الجبال ووسط اليم، المهربين للمخدرات ووسطاء المهاجرين غير الشرعيين، ومن يطلبون إدخال الأسلحة الخطرة للأوطان. المحبون لبلدانهم وسلامة أهلهم يقدمون أرواحهم كل دقيقة لمن لا يعرف أسماءهم ولا أشكالهم.. سوى أنهم الجنود المجهولون! العشاق المختلفون ممن يصنعون مثل هذه الحكايات ستجدهم كذلك في المستشفيات ومقار الإسعافات الأولية وعلى الطرق السريعة، لن تفتقدهم وهم يقفون بجوار رافعات بناء العمائر والجسور والملاعب ومراكز التسوق، ستعرفهم بالتأكيد وهم يتحركون بلا كلل ولا ملل في المطارات والموانئ وبين الأزقة الراغبة في السلام والطمأنينة. أبطال قصص الحب الذي نعنيه هنا، هم كل الموظفين الذين يبادرون لإنجاز معاملات وشؤون المواطن بلا تسويف ولا مماطلة ولا رغبة في الابتزاز. والأدوار الأولى في مسلسل العشاق الاستثنائيين يحصل عليها بكل اقتدار كل من يميط الأذى عن الطريق، وهم في ذلك سواسية مع أصحاب المقام الرفيع من القضاة وولاة الأمور الذين يفصلون بين الناس (بالعدل) فيما شجر بينهم. ومن الغرابة أن أهل الغرام والمشاهير تُخلد ذكرهم أسفار كثيرة، ويعرفهم الجميع تقريباً عبر التاريخ، وفي المقابل لا نجد إلا النزر القليل والمعرفة المتواضعة لأصحاب الحب الحقيقي المغمورين، حتى وهم يفتدون الكل بأرواحهم وصحتهم ووقتهم ومستقبلهم، ويبدو أنها ضريبة لابد أن يدفعها من يرغب في دخول نادي صُناع قصص الحب الشاملة. ... هنا يتبادر سؤال ذو علاقة فيما قلناه: لماذا يتقزم العمل التطوعي في بلادنا، والذي يعتبر من ضروب حب الإنسان لأخيه الإنسان، ويظهر جلياً في بلاد أخرى؟ يبدو -والله أعلم- أن أصحاب الثقافة والحضارة المختلفة لم يتركوا الجزاء ليوم الدين للمحسنين والمبادرين بالقيام بالخدمة العامة تطوعاً، بل أسسوا شيئاً يقال عنه "نصب الجندي المجهول" لتتذكر الأجيال القادمة وأهل الحاضر ما فعله السابقون، ليبادر الجميع بالتنويه والإشادة به، بل وتخفيض الضرائب لمن يستمر في تقديم كل عمل جليل في سبيل الأمم والأوطان. إن أردت -عزيزي القارئ- أن تكون بطلا لقصة حب مختلفة فعليك أن تزيح كل روايات وأشعار أهل العشق الذين تعرفهم، وبادر لصنع قصة حب مختلفة، وإن لم يكن بالاستطاعة فعليك تمجيد وإعلاء شأن من يكتبونها فعلا بدمائهم ودموعهم وأرواحهم.