لا تزال تداعيات وانعكاسات نتائج الانتخابات الإيرانية في الداخل الإيراني أولا، وما تعنيه من أبعاد ومخاطر أمنية في الخارج وخاصة في ما يتعلق بسمعة التجربة السياسية الإيرانية ومعناها، مستمرة ومتسارعة وتثير الكثير من الأسئلة ولا تقدم إلا القليل من الإجابات. وقد استمر التجاذب الحاد هناك حتى بعدما أقر وانحاز مرشد الجمهورية لفوز نجاد بفترة رئاسة ثانية، منهياً النقاش حول إعادة الانتخابات، مطالباً بوضع حد لبدعة النزول إلى الشارع، محمّلا الإصلاحيين مسؤولية ما ستؤول إليه الأوضاع باستمرارهم في الاحتكام لغير القنوات الدستورية والقانونية، رافضاً بوضوح اتهامات التزوير والتشكيك في نتائج الانتخابات، لأنه لا يمكنك أن تزوِّر 11 مليون صوت هي الفارق بين ما حصل عليه نجاد وما حصل عليه منافسه الإصلاحي المعتدل موسوي. ولاشك أن هذا يترك الجرح الإيراني نازفاً، ولا يفتح المجال في الاستجابة لمظالم موسوي والإصلاحيين ومطالبهم بإلغاء نتائج الانتخابات وإجراء انتخابات جديدة، لتتم المصالحة ورأب شروخ يهدد اتساعها، بين التيارين، بدفع إيران إلى ما هو أعمق وأبعد من مظاهر الاحتجاج على نتائج الانتخابات كما قال المرشد نفسه. بل إن التجاذب القائم قد يؤدي، إن لم يروّض جموحه، إلى اندلاع شرارة ثورة مخملية مضادة من داخل النظام نفسه، بعد ثلاثين عاماً من ثورة بدأت تُظهر معالم الاحتقان بتواتر وتنقلب على أبنائها ومناصريها. وقد يكون من المبكر الإجابة بشكل قاطع عن مسار هذا الحراك الدموي والعنف واللجوء إلى الشارع بمظاهرات غاضبة فجّرتها عمليات التجاوزات في نتائج انتخابات الرئاسة، والتي أدت في نظر المحتجين، إلى التزوير في النهاية، ومن ثم إلى اختطاف الاستحقاق الانتخابي في جملته على أيدي الأوصياء والقائمين على النظام بأجهزتهم الأمنية والعسكرية كـ"الباسيج"، مثالا لا حصراً! ويُخشى أن تتفاقم الأوضاع أكثر مع نزول الحرس الثوري للإمساك بأمن الشارع، ما قد يعني المزيد من القمع والترهيب والاعتقالات التي قيل إنها تجاوزت حتى الآن 700 من قياديي التيار الإصلاحي. كما حصد الاحتقان في طريقه، بعد أسبوع من المظاهرات والمواجهات والعصيان المدني، حتى الآن، أرواح 14 إيرانياً معظمهم من طلاب الجامعات. وفي المقلب الآخر، هناك من يرى أن إيران اليوم على مفترق طرق خطير، وأنها تواجه ثورة مضادة تصحيحية، سياسية واجتماعية، مليونية، جامعة، ومحفزة، ضد نظام آيات الله، وأن الحال أشبه بالعصيان الذي جرى في الجمهوريات الشيوعية في أوروبا الشرقية، أو انتفاضة ساحة "تيانامين" في بكين قبل عشرين عاماً. وكائناً ما كان التوصيف، فإن ثمة ما يستحق التأمل. فبعد ثلاثة عقود من الانقلاب (انقلاب باللغة الفارسية تعني ثورة)، على نظام الشاه ها هي الشوارع تستعيد الكثير من مشاهد العصيان المدني من خلال ترديد عبارات "الله أكبر" من فوق سطوح المنازل، والهتاف "الموت للديكتاتور" كما كان يحدث ضد شاه إيران سابقاً. ولذا مضى بعض المراقبين خطوة أخرى نحو التأكيد بأن ما نشهده قد يكون شرارة لبداية ثورة مخملية "خضراء" تجتاح إيران وتُحفّز الصامتين، ومَن لا صوت لهم، وتجمعهم في مواجهة نظام، وثورة أكلت أولادها ومناصريها! ومن هذه الزاوية من التحليل قد لا نبالغ إن قلنا إنه باتت أمامنا "إيرانان" اثنتان اليوم؟ إيران المدن الكبيرة بمثقفيها وأغنيائها القادرين على التواصل مع العالم الخارجي، وأغلبيتهم من الشباب والمثقفين القاطنين في شمال طهران والمدن الكبيرة والذين يتحدثون بالإنجليزية، ولكن بأعداد وتأثير وعمق محدود! وإيران الأخرى التي يمثلها المد الكبير من ملايين المحافظين والموالين والداعمين للنظام الحاكم من سكان جنوب طهران وضواحيها الفقيرة، والقرى والأرياف والفقراء الذين يزدادون فقراً وتهميشاً. وهؤلاء عملياً هم الخزان البشري الحقيقي والكبير للنظام وللرئيس نجاد. وفي المقابل هناك من يرى أن ما يجري في إيران ينبغي عدم المبالغة في أبعاده ومعناه، على نحو قد يشتط بالتأويل والتفسير أبعد مما يلزم، مع ترجيح بقاء الأمور في سياقها الموضعي والموضوعي دون مبالغة بالحديث عن ثورة أو غيرها. وأن المظاهرات المحدودة والعصيان المدني ليسا ثورة ولا انقلاباً. بل إن نجاد نفسه قلل من شأن ما يجري في البداية مشبهاً المتظاهرين والمحتجين بـ"القذارة والغبار"، وبأنهم كمشجعي فريق كرة قدم خاسر! وهذا طبعاً كلام يستفز، دون شك، شريحة كبيرة وصلت إلى أكثر من 15 مليوناً صوتت ضد نجاد. والراهن أن ما نراه اليوم في إيران هو حصاد ثلاثين عاماً من النظام الثوري الديني، بديمقراطية انتقائية سمحت فقط بترشيح أربعة مرشحين من أصل 476 مرشحاً للرئاسة، وذلك عبر مجلس صيانة الدستور، الذي يضمن نتائج متوقعة ومفصلة للنظام! وبهذا المعنى فإن احتقان إيران اليوم يبدو نتاج نظام وصل إلى مفترق طرق وفقد بوصلته، ويخشى إذا ما تفاقمت الأوضاع أن تسير الأمور في تدهورها إلى ما هو أسوأ، وسط صمت ومتابعة أميركية وغربية، قد تُفسر بالضعف، أو بعدم الرغبة في التشكيك بشرعية النظام، أو عدم الاطلاع، خاصة مع حالة "البارانويا" من تصرفات أجهزة النظام الإيراني في التعامل مع وسائل الإعلام الأجنبية والتضييق على الحريات ووسائل الاتصال والإنترنت للحيلولة دون نقل ما يجري في إيران. وفي المحصلة، من الواضح أن إيران تمر بمرحلة مفصلية ومهمة، وقد تكون الأخطر منذ قيام الثورة، لأنها ستحدد مسار ومستقبل الجمهورية، واتجاه رياح التغيير التي يتابعها الإيرانيون أولا ومعهم المهتمون بالشأن الإيراني، لاستكشاف مؤدى هذا التجاذب وعمق وحقيقة ما يجري هناك، وخاصة في الجوار الإيراني الذي ننتمي إليه، وإلى أين سيقود كل هذا الصراع والحراك إيران؟ وكيف سينعكس على المنطقة؟ ويبقى -أخيراً- السؤال الكبير على حاله، على رغم افتراق رؤى المحللين والمراقبين: هل حقاً ما يجري في إيران ثورة مخملية سياسية اجتماعية ستتفاقم وتتفجر بالفعل؟ أم أنها مجرد احتجاجات ومظاهرات وسرابات "غبار" سرعان ما ستنقشع وتختفي، أو تعود؟! في كل الأحوال من الواضح أن نجاد بات فعلا رئيساً لفترة ثانية، وأن إيران ونظامها وديمقراطيتها قد خسرا جولة كبيرة وحاسمة لن تكون البلاد فيما بعدها كما كانت قبلها!