مرتان أكد الشعب الإيراني أنه ديمقراطي في بلد ديمقراطي، أولا عندما اتجه إلى صناديق الاقتراع بكثافة لاختيار رئيسه المقبل، وثانياً عندما اختار بعضه أن يرفض نتائج الانتخابات بالطرق السلمية... فهل يستوعب أصحاب القرار هذه الحقيقة وما يريده الشعب؟ إن الأزمة الداخلية في إيران ليست جديدة، فهي معروفة، لكن الاحتجاج الذي تبع نتائج الانتخابات كان مفاجئاً للكثيرين، فعلى مدى سنوات أشار العديد من الكتاب والمحللين إلى احتقان داخلي في إيران، ودعوا النظام الإيراني إلى الالتفات إلى الداخل، وحل مشكلاته بدلا من الاستمرار في تصدير المشاكل إلى الخارج بافتعال مشاكل مع الجوار العربي وغير العربي وتأزيم العلاقة مع الغرب. واليوم يظهر أن هذه السياسة لم تكن موفقة ولم تنجح، فخلال الأسبوعين الماضيين رأى العالم نتيجة تجاهل مطالب الشعب. مضى يوم الاثنين الماضي بلا أحداث دامية بعد أيام من المظاهرات، وكان الهدوء إجبارياً بعد أن تم تشديد الأمن في طهران، ويوم أمس أعلن مجلس صيانة الدستور قراره الحاسم برفض إلغاء نتيجة الانتخابات لعدم وجود مخالفات كبيرة فيها... ولا أحد يتوقع ما تخبئه الأيام المقبلة، لكن خطبة المرشد يوم الجمعة المقبل ستكشف ملامح المرحلة القادمة وتبين إن كانت اللعبة قد بدأت أم أنها انتهت؟! وفي كل الأحوال فإن تأثيرات الأحداث التي تبعت الانتخابات ستلقي بظلالها على الشأن الإيراني الداخلي والخارجي وعلى التوجه الأميركي والغربي نحو إيران، فبعد أشهر من الغزل والكلام الناعم بين أميركا وإيران، وبعد توقعات بتحسن العلاقات الإيرانية الأميركية، يبدو أن العلاقات تعود إلى المربع الأول وخصوصاً بعد اتهام إيران المباشر لأميركا والغرب بإثارة الشارع الإيراني والتدخل في الانتخابات. أما بالنسبة لدول الخليج والدول العربية فيفترض أن تكون مستعدة لجميع الاحتمالات، فما يحدث في إيران يهمها لأنه يؤثر عليها بشكل مباشر، فاستقرار إيران مهم لجميع دول المنطقة كما أنه مهم للاستقرار العالمي، لذا سيكون خروج إيران من هذه الأزمة بأقل الخسائر أمراً يريح المنطقة. ما حدث خلال الأسبوعين الماضيين لا يرقى إلى أن نطلق عليه "ثورة"... لكن إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه من تجاهل لمطالب المحتجين، فإن إيران قد تصبح بصدد "مشروع ثورة" قد تنفجر في أي وقت في المستقبل أو هي البذور الأولى لتغيير جذري قادم. فالجماهير الإيرانية اليوم ليست جماهير 1979 في مضمونها وان كانت لا تختلف في الشكل، فمطالب الشارع واضحة سواء على الصعيد الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي. التغيير الحقيقي الذي حدث والذي يستحق كل الاهتمام هو التركيز على مكانة مرشد الجمهورية... فيبدو أنه بعد خطبة الجمعة الماضية اهتز موقفه سياسياً، وصار من المهم معرفة موقع المرشد في المرحلة المقبلة وحدود تأثيره، سواء على قرارات الدولة أو سلوك الشارع... لأن عدم انصياع الجماهير يوم الجمعة لدعوته بعدم التظاهر في ساحات طهران، كشف تغيراً جديداً في الشارع الإيراني بعد سنوات من الطاعة لكل ما يقوله المرشد. الإيرانيون كغيرهم من الشعوب يريدون ديمقراطية حقيقية يغيرون من خلالها حياتهم، والشباب الإيراني كغيرهم من شباب العالم يريدون مؤسسات دستورية ينتخبها الشعب، ويريدون المرأة أن تأخذ حقوقها كغيرها من نساء العالم، ويريدون أن تكون هناك حرية في الإعلام وحرية في التعبير عن الرأي، يريدون وظيفة ويريدون حياة كريمة، خصوصاً أنهم يعيشون في بلد غني لا يقل غنى عن دول أخرى حولهم يعيش مواطنوها حياة رغيدة... الحقيقة الأخرى التي لا يمكن تجاوزها في الأزمة الإيرانية هي أن الدين والسياسة لا يلتقيان... فهذه الحقيقة أكدها التاريخ منذ سنوات طويلة وتؤكدها الأحداث يوما بعد يوم... هذا المنطق لم يعد يقبله الشارع الإيراني وحاول بصوته ودمه بان يعبر عن رأيه فيه، وأن يغيره ويقول إن خلافه ليس مع الدين وإنما مع المؤسسة الدينية التي تصبغ كل شيء بصبغة الدين وبالتالي لا تضع خيارات أمام الناس فدائماً عليهم أن ينفذوا ما يؤمرون به لان الدين -متمثلا في المؤسسة الدينية- يأمرهم بذلك ولا يجب أن يعصوا الدين. وهذا هو فكر كل الجماعات والأيديولوجيات الدينية التي تسعى إلى الحكم، فهي في النهاية تريد استغلال الدين لتحقيق أهدافها الدنيوية والسياسية وهذا ما يجعل المجتمعات تقاوم الأفكار الدينية التي تستخدم السياسة... فكل التجارب تجعلنا نقف ضد هذه الأفكار المستغلة للدين... بعد هذه الأحداث التي تمر بها إيران لا يمكن إلا أن نذكر أولئك المتحمسين الذين كانوا يرددون دائماً أن إيران ستعطي العالم دروساً في الديمقراطية، فأتت هذه الأحداث لتضع علامة استفهام كبيرة حول هذا الادعاء بعد الاتهامات التي وجهت للقائمين على الجمهورية بتزوير الانتخابات والكل يعرف أن التزوير "حرام"! إيران على موعد مع انتخابات 2013 التي ستكون استكمالا لانتخابات 2009 الساخنة التي لم تتضح نهايتها حتى الآن ومن غير الواضح كيف ستنتهي ولكن على الأرجح أن اتفاقاً ما سيحدث وسيرضي جميع الأطراف على الرغم من تصريح بعض الإصلاحيين بأن الاحتجاجات ستبقى مفتوحة "حتى إقالة نجاد"... لكن هذا ما لا يبدو أكيداً لأن هناك معسكراً قوياً للمحافظين ولأنهم والإصلاحيين في النهاية يرجعون إلى فكر واحد وخرجوا من العباءة نفسها.